مهنة تنتحر

29 يوليو 2015
+ الخط -
تعيش الصحافة العربية أسوأ أيامها. تنتحر صحف وإذاعات وقنوات تلفزية على أبواب المهنية والاستقلالية وأخلاقيات المهنة. ونشهد سوابق إجرامية لم تسجل من قبل في الكتاب الأسود للإعلام، ولم تعد لصحفيين كثيرين حدود يقفون عندها، وهم يبيعون ويشترون في سوق النخاسة الإعلامية.
عندما يتحول الصحافي من ناقل للأخبار إلى موضوع للأخبار، فاقرأ السلام على مهنة المتاعب. عندما يصير الصحافي علبة رسائل، يلقي فيها كل صاحب مصلحة أو معركة بضاعته، فاغسل يدك على الصحافة. عندما تصير لأجهزة الأمن مقاعد محفوظة في غرفة تحرير الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزات، فابحث لوسائل الإعلام هذه عن اسم جديد في قاموس الدعاية، لا في دليل المهنة. عندما يقدم الصحافي ولاءه إلى صاحب السلطة أو المال، أو لهما معاً، فإنه يتحول من عقل إلى غريزة، ومن فكر إلى أداة، ومن جنرال يقود الرأي العام إلى جندي يمسح حذاء أسياده.
إلى عهد ليس بعيداً، كان الناس في الشارع العربي يطلقون على الصحافي "الأستاذ". الآن، صار الناس يخترعون ألقابا أخرى له، فتسمع هذا "بلطجي" وذاك "ملفق" والثالث "شعبوي"، والرابع يغير مواقفه أكثر مما يغير جواربه. لكل زمن رجاله، ولكل وقت قاموسه.
كان الملك الراحل الحسن الثاني يشن حملات على صحف المعارضة التي كانت تزعجه بخط تحريرها المناهض لسياساته، حتى قال يوما متهكما عليها: "لا توجد في الجرائد سوى معلومتين صحيحتين، تاريخ صدورها وثمن بيعها". كانت تلك نكتة فصارت حقيقة، ليس فقط لأن الكذب اجتاح الصحافة مثل ما يجتاح الجراد شجرة خضراء، بل لأن مؤسسات صحفية كثيرة باعت المهنة في السوق المفتوح على مصراعيه، خوفاً أو طمعاً أو هما معاً. ما عاد للكلمة من حرمة وللمهنة من باب. وقد دخل صحفيون مصريون إلى التاريخ الأسود للصحافة من بابه الواسع، ولو عاش غوبلز وزير دعاية هتلر إلى اليوم لبقي مشدوهاً كيف تحول الكذب إلى صناعة في الإعلام المصري، وكيف أصبحت العنصرية خطاً في التحرير، والفاشستسية مؤسسة لها بناء ومصادر تمويل وكتيبة هجوم، والتحريض على القتل والاغتصاب وانتهاك حقوق الإنسان من مستلزمات الإعلام في زمن الانقلاب. ولكن انتهاك حرمة الصحافة والإعلام بدأ مبكرا في لبنان وسورية والخليج والمغرب العربي وكل الدول العربية، فلا صحافة حرة بدون ديمقراطية، ولا إعلام يحترم عقول الناس بلا رأي عام واع وأعينه مفتوحة.
ليس هذا جَلداً للذات، إنه اعتراف صريح بما آلت إليه مهنة نبيلة، تتعرض كل يوم لحملات تشويه خطيرة وفظيعة. في الدول الديمقراطية، كلما ازدادت قوة الرأي العام ازدادت قيمة الصحف ووسائل الإعلام، لأن الأخيرة هي الجسر الرابط بين الدولة والأحزاب والحكومات والشركات والمؤسسات والشارع الحي المتفاعل. في الدول المتخلفة، كلما انتعش الرأي العام ازدادت قبضة السلطة على عنق الإعلام، وعلى روح الصحافة، وعلى وظيفة النقد العميق للسياسات العمومية وللقرارات الكبرى، ولما ينفع الناس ويضرهم. عِوَض أن تصلح الدولة من صورتها لدى الناس تعمد إلى تكسير مرآة الصحافة التي تعكس صورتها الحقيقية، وتعتقد أنها، بهذه الطريقة، تحل المشكلة، فيما تعقد المشكلة أكثر وتضرب مصداقية وسائل الإعلام.
أصبحت الصحف عندنا تهرب إلى تغطية أعطاب المجتمع، عِوَض التطرق إلى أعطاب السلطة. أصبحت الجريمة وأخبار المنوعات وكواليس الفن والمشاهير تغطي على الخبر السياسي والاقتصادي. وأصبح ترتيب الأخبار يخضع لسلم خاص، ليس فيه اعتبار للقارئ أو للحدث أو للوطن أو للمنطق.
ينتقم المواطن اليوم من الجريدة (المخدومة) والإذاعة الكذابة والتلفزة الغبية والمجلة المنافقة، فيلجأ إلى الحائط الأزرق، إلى "فيسبوك" و"تويتر"، فيكتب فيه أخباره، ويعلق على الأحداث ويصنع جريدته كل يوم. ما عاد الإعلام التقليدي يحتكر مهمة الإخبار والتعليق والتحليل. صار كل صاحب هاتف ذكي ولوح براق وحاسوب في البيت صحافياً ومحللاً ومعلقا وصاحب رأي. هذا لا يحل مشكلة الإعلام العربي، لكنه يخفف من أضرارها.


A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.