مهرجانات القاهرة السياسية... الدولة المصرية ظاهرة صوتية

23 أكتوبر 2019
تعكس أغاني المهرجانات حالة سياسية مصرية (Getty)
+ الخط -
 
 
في يوليو/تموز من عام 2019، انتشر مقطع مصور للسفيرة نبيلة مكرم وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين في الخارج، تقول فيه بينما تشير بعلامة النحر أثناء اجتماعها مع الجالية المصرية في كندا، "محدش يقدر يتكلم على بلدنا برا، اللي يتكلم على بلدنا برا يحصله إيه؟ يتقطع".

لغة الوزيرة والدبلوماسية المخضرمة الغريبة عن الأعراف الدبلوماسية، ليست زلة لسان، إذ تتناغم مع سياق كامل من تصريحات مسؤولي النظام المصري التي تقوم على عدة مرتكزات يمكن حصرها في النقاط الآتية:

أولا: وعود فارغة المضمون باللجوء إلى القوة لا تلبث أن تتهاوى أمام الواقع، وهو ما يتضح على سبيل المثال من حادثة جرت في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي، بعد اعتداء وقع على سيدة مصرية في الكويت ووقتها بادرت وزيرة الهجرة أثناء اجتماعها بلجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، قائلة بحزم "كرامة المصريين خط أحمر" لكن النائبة الكويتية صفاء الهاشم ردت عليها بقوة وحتى استخدمت اللهجة المصرية قائلة "إن كنتوا نسيتو اللي جرا هاتوا الدفاتر تتقرا"، وسرعان ما تغير رد الوزيرة إلى "مبنردش على الإساءة نهائي" في تراجع عن خطاب القوة الاستعلائي الاستعراضي.

ثانيا: التهديد باستخدام القوة ضد أعداء متخيلين، مثل توجيه كلام مملوء بالتهديد ضد أعداء لا يُفصِح المسؤولون عنهم غالبًا، ويوصفون بـ"أهل الشر" مثلما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2015 خلال حفل افتتاح تفريعة قناة السويس الجديدة.

ثالثا: حديث يتسم بالمبالغة الشديدة وغير المقبولة ويرمي لإثبات سيطرة النظام على أزمات تمس الأمن القومي، كإعلان قائد الجيش الثاني الميداني السابق، خلال حوار أجرته معه جريدة الوطن في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2013 بخصوص الإرهاب في سيناء: "كنا نقدر نقضي على الإرهاب في سيناء في 6 ساعات، والعمليات الأساسية هناك قد انتهت والآن نحن في مرحلة التطهير النهائي" ذلك التطهير الذي استمر منذ تاريخه حتى الآن، أما التصريح الأغرب، فهو رده على سؤال الصحافي بخصوص إلغاء أميركا مناوراتها العسكرية المشتركة مع مصر وقتها فرد: "أمريكا هي الخاسر الأكبر من هذا القرار".

يمكن تحليل وقراءة التصريحات السابقة واستعراض القوة اللفظي غير المستند إلى أساس واقعي، في سياق أغاني المهرجانات وما ارتبط بها من ظاهرة صوتية يعرفها الشباب المصري باسم بلغة "الأشباح" والتي تعد أعمال الفنان محمد رمضان أحد أبرز طرق تجسيدها العابرة للطبقات في مصر، إذ تخطى عدد مشاهدات مقاطع الفنان المقرب من النظام والتي يتم بثها عبر قناته الرسمية على "يوتيوب" ملياري مشاهدة، والأمر ليس بمفاجئ أو غريب؛ فمعظم مقاطع الفيديو على قناته هي "الكليبات" التي تبث أغانيه، محققة ملايين المشاهدات، وملايين من مرات الاستماع على منصات موسيقية أخرى غير "يوتيوب"، مثل قناته على موقع "ساوند كلاود".

انتشار رمضان وما يجسده من حالة "الشبحنة" يبدو كذلك عبر ما وصفه بانه "أقوى حفلة في الساحل"، والتي تجاوز عدد حضورها 50 ألف شخص، كما ذكرت بوابة الأهرام الإلكترونية. كما أن تذاكر الحفل تراوحتْ قيمتها من 200- 1000 جنيه، والمكان كان في قلب "الساحل الشمالي"، الذي يتحول لعاصمة الأغنياء في شهور الصيف، بالتحديد في "جولف بورتو مارينا".. جمهور الحفل الضخم لمحمد رمضان لا يمكن وصفه بأنهم من الفقراء، الذين اعتاد الإعلام تصنّيفهم على أنهم وقود وجمهور الحالة الموسيقية التي يقدمها "رمضان" في أغانيه.

ويبدو أننا أمام حالة غريبة، غير مريحة لمن يَتبنون التصنيفات التقليدية للأشياء، أو التحليلات اليسارية العتيقة؛ إذ إننا أمام جمهور يحضر حفلًا لممثل احترف الغناء مؤخرًا؛ ليقدم محتوى غنائيًا فريدًا، يمزج بين موسيقى المهرجانات، والإيقاعات الغربية، بكلمات لا تخرج عن حيز وصف صاحبها بأنه "الأسد" و"نمبر وان" و"الملك"، والأمر هنا ليس مجازيًا فقد دخل رمضان إلى مسرح الحفلة محمولًا على محفَّة، مثل سلاطين العصور السحيقة، وفي أغانيه هو المنتصر دومًا على جماعات الفشلة والمهزومين، في مزيج استعلائي لا يتبرأ من استعلائيته، بل يُصدِّرها للعلن متباهيًا، في حالة من نشوة التفاخر بتضخم الذات المستشري لدى المقربين من النظام المصري ومسؤوليه الذين ما فتئوا يكررون كلمات رنانة لا تستند إلى واقع حول عظمة مصر وعظمة العهد الحالي وإنجازاته التي لم تتحقق خلال 40 سنة، كما يقول رأس النظام في أكثر من مناسبة.

ويبدو الأمر هنا أننا أمام حالة تعد فيها موسيقى المهرجانات مُعبِّرًا صوتيًا لظاهرة أكثر اتساعًا، أصابت المجتمع والدولة: يمكن أن نطلق عليها ظاهرة "الشبحنة".
 
 
 

أصداء المهرجانات

ظهرت أغاني المهرجانات الشعبية قبل ثورة يناير، إذ كان مهرجان "السلام" أول نموذج منها يخرج للعلن في عام 2008، والذي قام بأدائه فيفتي المصري أحد أوائل مغني المهرجانات في مصر فى جو يسوده الاستقرار السياسي الظاهري، لكن عدم الاستقرار السياسى كان كامنًا وظهر بعد ذلك في صورة ثورة، ونفس المنطق ينطبق على حالة أغاني المهرجانات الشعبية، وترى الباحثة عصمت محمد يوسف، في دراستها "عدم الاستقرار السياسي وأثره على ظهور المهرجانات الشعبية"، الصادرة عن المركز الديموقراطي العربي للدراسات في يوليو/تموز من عام 2016، أن ثورة يناير وما تلاها فترة الانتشار الحقيقي للمهرجانات، إذ إنها كما أخرجت الرأي السياسي للشارع إلى العلن، أخرجت صوته الفني المكبوت، والذي كان قد انصرف منذ زمن عن موضوعات الأغاني الرومانسية، التي تُقرها المؤسسات الفنية الرسمية، إلى موضوعات أقرب لحياتهم المليئة بالعنف والفوضى.

وفي تعريفها لعدم الاستقرار السياسي تشير الباحثة إلى أن أحد أهم المؤشرات عليه هو تفكك مؤسسات الدولة، إذ تنهار القوانين والقواعد والأخلاقيات المنظمة لعمل الدولة ودورها المنصوص عليه دستوريًا، فمثلًا "لم يكن هناك برلمان حر ممثل للمواطنين ومعبر عن مصالحهم، فمعظم النواب يسعون وراء مصالحهم الشخصية وتناسوا وظيفتهم الأساسية.. لم يكن هناك أي مؤسسة  قادرة على تلبية مطالب الناس، حيث تفشّى الفساد فى كل مؤسسات الدولة وهو ما ينهي أساس وشرعية وجودها فعليًا. إذ نتخلى طواعية للدولة عن حق حمل السلاح؛ مقابل حماية أرواحنا وممتلكاتنا، بينما العرف السائد بين الشعب، أنه في حالة سرقة سيارتك على سبيل المثال، تتوجه لمقر الشرطة، الجهة المُخوَّل لها تنفيذ القانون وحفظ الأمن، فقط لإثبات الحالة، حتى لا يُرتكب بها جناية وهي تحت حيازتك قانونيًا.. لكن إذا ما أردتَ استرجاعها؛ فعليك التواصل مع الجناة المعروفين في المنطقة، وافتداء سيارتك بالمال".

الانهيار المؤسسي الشامل للدولة الذي تراه الباحثة، خاصة في المنظومة القانونية، سحب أهم أدوارها من الشارع المصري، وجعل الجميع يخشى الجميع، طالما لا توجد قواعد واضحة منظمة بينهم، وعدالة ناجزة تُرجع الحقوق لأصحابها، فأصبح المصريون يحتمون بمناطقهم السكنية، أو قوتهم العضلية، أو حسبهم ونسبهم، وهو فحوى خطاب أغاني المهرجانات، أي أن كل مواطن صُنِع له ما يشبه صدفة السلحفاة يختبئ داخلها من الفوضى المنتشرة بالخارج، صارخًا من داخلها "يا ابني احنا أسود الأرض".

ويتضح هذا بعد ثورة يناير إذ حدثت تغيُّرات كبيرة في طبقة الحكم؛ ما ساهم في انفلات الخطاب الرسمي الذي كان يتحلى بدرجة من اللباقة الدبلوماسية في عهد مبارك؛ ليتفاقم الأمر بعد 30 يونيو، وأصبح الصوت الوحيد المسموع في البلاد هو الصوت الخارج من هذه الصدفة؛ حيث لغة استعراض القوة وتأكيد القدرة على البطش والاستعلاء غير المبرر.
 
 
 

الدولة الشبح تخاطب مواطنيها

"جيل النت"، أو جمهور المهرجانات، أو محبو محمد رمضان، يلامون كثيرًا بالرغم من كونهم خلاصة الحالة المصرية، هم أبناء مخلصون لما شربوه ها هنا في "أم الدنيا"، ذلك التعبير الذي تخطى كونه تعبيرًا حماسيًا أطلقه الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعدما تبنته مؤسسات الدولة كشعار للمرحلة، ليتحول إلى حالة مؤسساتية.

هذا التفاخر الذي يبدو ساخرًا عندما تجد الزيادة السنوية التي تحققها مصر تصب دومًا في ازدياد معدلات الفقر؛ فاستعراض القوة فارغ المضمون هذا، يكاد يتطابق وكلمات المهرجانات، وأفلام وكليبات رمضان، وغيرها من الأشكال الفنية التي اتخذت من ثقافة الاستعراض سبيلًا لجمهورها من الأشباح.

وللظاهرة جذور أبعد من اللحظة الحالية؛ فخلال سنوات التأسيس الأولى للنظام العسكري، في 23 يوليو 1952، كان استعراض القوة أمرًا ذا أهمية كبيرة، سواء في شكل استعراضات عسكرية لا تنتهي، أو تلميع نهضة الإنتاج الصناعي، أو في خطابات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.. لكن كل ذلك كان يعتمد على شيء حقيقي، ولو كانت إنجازات صغيرة تضخمها البروباغندا، وهو الشرط الذي لم يعد نظام يوليو قادرًا على تلبيته مع تقادم العمر، فصار الخطاب الذي لم يتبدل فيه الكثير، خاصة نقطة التفاخرالأجوف بالقوة، استعراضًا مرتكزًا على الفراغ، مثلا على لواء شرفي وليس حقيقي متهم بالنصب، يزعم أنه ابتكر جهازًا يداوي كل الأمراض، أو أطفال تم إيهامهم بأنهم عباقرة صغار، لأن الطفل المصري الأذكى في العالم حتى عمر السبع سنوات، كما تقول الأسطورة الشعبية، أو في فرض أغنية حماسية من المُفترض أن تُغنَّى في ميادين التدريب العسكرية على أطفال المدارس، أو تصريح للسيسي في معرض حديثه عن الإرهاب يقول فيه "التخطيط معمول إن الجيش ينتشر في مصر خلال 6 ساعات"، لماذا؟ وفي مواجهة من؟!

وبالرجوع قليلا إلى الوراء نجد أن كيان الاحتلال ألقى بشعارات "ناصر في البحر"، بعد هزيمة 1967 التي كشفت خواءنا؛ فلم نطلق قنابل ذرية على "تل أبيب"، بخلاف ما كان يتوقع المواطن البسيط الذي سأل الشاعر أحمد فؤاد نجم قبل إعلان الهزيمة: "إحنا مش عندنا القنبلة الذرية؟" فجاء جوابه ساخرًا ومريرًا بطعم الحقيقة: "عندنا الذرية الصالحة" كما روى الشاعر في مذكراته التي صدرت تحت عنوان "الفاجومي".

وعند بلوغنا مرحلة السلام الرسمي مع إسرائيل بوساطة أميركية، وتقزيم دور مصر إقليميًا، وعسكريًا ودبلوماسيًا، غاب معنى خطاب الدولة، ولم يبقَ إلا رطانته، كاستعراضات عسكرية  مهيبة تُقام متى سنحت المناسبة، رغم أن مصر لم تخض من يومها -1973- حربًا حقيقية، بينما لا تُمارَس هذه القوة فعليًا إلا على أجساد المواطنين.
 
 
 

"الأشباح" وأوهام التفوُّق

وصف "الشبح" ليس سُبة بين أفراد الأجيال الشابة في مصر، فالشبح هو الشاب القوي، الخطير، القادر على فرض سيطرته، وممارسة الاستعراض و"الشبحنة"، كما تمارسها الدولة ونظامها الحاكم.. المصطلح نفسه يدل على حالة الزهو بالغموض؛ فهو قادم من عالم الجن والأشباح والتعلق بالميتافيزيقا، تلك الميتافيزيقا التي لا يفوِّت رئيس الدولة فرصة للتعبير عنها، حتى أن توليه الحكم جاء له في المنام قبل 35 عامًا، كما ذكر في تسريب لجلسة حوار جمعه مع الصحافي ياسر رزق في ديسمبر 2013، حيث قص أن الرئيس الراحل أنور السادات قال له في الحلم: "أنا كنت عارف إن أنا هبقى رئيس جمهورية" فرد عليه: "وأنا كمان عارف إني هبقى رئيس جمهورية".

"الشبحنة" في جوهرها تبدو استعراضًا لا يستند إلى أي قوة حقيقية، جعجعة جوفاء في المطلق، كأنها حالة من انتفاخ "الأنا"؛ في رفض لإدراك هشاشة واقع صاحبه.. جوهر واحد، تتشابه فيه كلمات "المهرجانات" مع نمط حياة "الأشباح" الجدد الذين ملأوا شوارع المدن، مع جوهر خطاب النظام السياسي في مصر، الذي أسس لواقع "الشبحنة"، التي تغطي كيانًا كاملًا من الهشاشة، ينخر السوس في كل أجزائه.