من يوميات امرأة في غزة
أُغرمتُ في مراهقتي بمسلسل "ليلة القبض على فاطمة"، وأبكتني مشاهده الأخيرة، عندما وقفت مدينة بأكملها صامتة، ومكتوفة الأيدي، أَمام سطوة الأخ الذي يقرر بفعل ماله ونفوذه، أن يزج بشقيقته الكبرى، والتي كانت بمثابة أمه، في مستشفى الأمراض العقلية.
لا أَدري لـِمَ تحضرني هذه المشاهد كلما تعرضت غزة لـ "جولات" جديدة من القصف الجوي، وكأني أرى غزة تلك المرأة المناضلة والأبية، والتي يتكالب عليها الجميع، فينطبق عليها المثل إن الكثرة تغلب الشجاعة أحيانا.
في كل ليالي القصف، وخصوصاً إبان حرب عام 2008، كنت أصر على أَن أجمع أبنائي الأربعة في غرفتي، المنزوية عن باقي غرف شقتي الصغيرة، وأردد في نفسي: نموت سوا... يا نعيش سوا. وكنت أضم الصغار، وأحتار أيـّهم أدنى مني، وتتقاذفني أفكار سوداء عن العثور علينا، في الصباح، أَشلاء متناثرة.
لم أكن أملك شيئاً ثميناً أَحرص عليه، ولا زلت، ولكني أجمع الأوراق الثبوتية، الخاصة بعائلتي الصغيرة في حقيبة جلدية، وأضعها على مرمى يديَّ، لأصل إليها، في حال اضطرارنا مغادرة البيت. ولم أقدم في أية ليلةٍ على التفكير بمغادرة بيتي، لأن مغادرته تعني بقاءنا في العراء، فلا ملاجئ آمنة ومجهزة نلجأ إليها. وأصبحت لديّ قناعة بأن الموت في بيتي أكثر احتراماً ومهابة، وحين كبر صغاري، أَصبح ابني يقول لي: اللي استحوا ماتوا. بمعنى علينا الخروج من البيت، في حال اشتداد القصف، وقضاء الليلة عند صديقةٍ لي، بيتها في منطقة آمنة نسبياً، بعكس بيتي قرب شاطئ البحر، أي أمام مرمى نيران المدفعيات التي تجوب البحر طوال الليل، وترهب السكان الآمنين، وقليلي الحيلة، بقذائفها.
وفي إحدى ليالي حرب عام 2008، وكنت أرقب طائرة حربية، من شباك شرفتي، وهي تقصف بيتاً مجاوراً بيتي، بدعوى أَن صاحبه قيادي كبير في حركة حماس. وقع الشباك، بكامله، من مكانه. ولولا إرادة الله، لقضيت نحبي تحته، فالشباك كان كبيراً وثقيلاً، من الشبابيك الضخمة التي كانت تصمم في البيوت القديمة، لكني أَمسكت به بكلتا يديّ، وبقوة. استقبلته بجسدي، من دون أن يصيبني، وكان همي الأكبر أَلا ينكسر، لأني أَعرف جيداً أنني لن أستطيع إصلاح زجاجه، وسأضطر إلى تغطيته بـ "النايلون"، أَو الورق الملون، كما يفعل كل الناس في غزة، حين تنكسر شبابيكهم، فأوضاعي المادية لا تسمح لي بإصلاح أي عطب طارئ في شقتي.
وهكذا، أصبح أبنائي يتندرون عليَّ بأن الشباك هو الأهم عندي، لأنني بمجرد أن أسمع صوت غارة جويةٍ من بعيد، أهرع نحو الشباك، وأصرخ: الشباااااااااااااااك، وأحتضنه، كما فعلت أول مرة، وهو لا يخذلني، ولا يسقط فوق جسدي بهدوء وراحة.
ليلة قبل أسبوع كانت جديدةً قديمة بأحداثها. حاولت منع ابني من الخروج من البيت، لكنه أصر على أن يخرج، مرددا قوله تعالى: أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة. فشلت في إقناعه بأن يعود إلى البيت، وإلى غرفتي تحديداً التي لم تعد ملاذنا الآمن، ثم أرسل لي رسالة من هاتفه: ابن غزة لا يخاف...
أثلجت عبارة ابني صدري، على الرغم من خوفي عليه، وتذكرت منظر أطفال إسرائيليين خرجوا من الملاجئ، كفئران مذعورة، بعد إعلان التهدئة في أثناء الحرب على غزة، في شتاء العام الماضي، وكيف كانوا يهللون ويصفقون فرحاً، لتوقف قصف صواريخ حماس المدن الإسرائيلية.
في غزة، وحيث أعيش امرأةً وحيدةً مع أبنائي الأربعة، أَجد أنني أمتلك قوةً تزداد يوماً بعد يوم، فهل غزة أرض المعجزات التي تمدني بتلك القوة؟ في الواقع، عندما يلحُّ عليّ هذا السؤال، أتذكر أن بطلة مسلسل "ليلة القبض على فاطمة"، حين كانت تُقاد إلى مستشفى الأمراض العقلية، بعد مؤامرةٍ قذرةٍ حيكت ضدها، كانت تحمل في أحشائها جنينها، وأسدل الستار على نهاية الأحداث على صوت بكاء الوليد، القادم من أحشاء القهر.
هل أنا قوية، وأزداد قوةً لأنني أنجبت مثل ابني هذا، الذي يتابع القصف بعينيه، وهو في العراء، وينظر إلى طائرة "إف 16"، بنظرته اللامبالية التي اعتاد أن يرمق بها صرصوراً صغيراً، يزحف على أرضية المطبخ، فيما يتعالى صراخي مع ابنتيَّ الصغيرتين؟