من يبني الوطن؟
دائماً ما ترددت كلمة أن النهضة الحقيقية لا تبني سوى بزعيم قوي، قادر على أن يحكم البلاد بقبضة من حديد، لكي تسير عجلة الانتاج ولا تتوقف، وشاعت، في الفترة الأخيرة، وخصوصا في مصر، أن الزعيم العسكري وحده القادر على أن يحكم مصر بيد من حديد، وأن تسير في طريقها إلى النهضة، هل الزعماء هم مصدر الإلهام والنهضة، أم أن الشعوب مصدر النهضة، والتحدي للظروف التي يمر بها الوطن؟
دعنا، عزيزي القارئ، ننظر، قليلاً، إلى التجربتين، اليابانية والماليزية، لنجيب عن السؤال، اليابان بلد متعاون، ويقدر قيمة العمل الجماعي، وكل فرد من أفراد اليابان يعمل لأجل رقي بلده وتقدمه، وأجمل ما فيهم أنهم لا يؤجلون عمل اليوم إلى الغد، والآن علمت سبب تسمية اليابان "البلاد التي لا تغيب عنها الشمس".
يتجلى نجاح التجربة اليابانية في رفض اقتباس الثقافات الغربية التي تقود إلى التغريب في المسكن والمأكل واللباس والتعليم، وكذلك في التخاطب اليومي، على عكس المصريين، فنجح اليابانيون في اقتباس التكنولوجيا الغربية، وتوطينها واستيعابها، من دون مغادرة أصالة تقاليدهم الاجتماعية.
لك أن تتخيل، عزيزي القارئ، أن دخل الفرد المصري من الناتج المحلي كان يزيد، قليلاً، عن دخل الفرد في اليابان، ويصل ضعف نصيب الفرد الياباني من التجارة الخارجية خلال حكم محمد علي مصر.
إن انفجار قنبلتي هيروشيما ونجازاكي، بالإضافة إلى حروب العسكرتاريا التي حدثت، حالت دون تحديث الجيش الياباني وتحديث الخدمة، الأمر الذي جعل تلك الحروب نقطة سوداء في التاريخ الياباني، وأدرك الشعب الياباني أن مغامرات القادة العسكريين حوّلت بلاده إلى ركام، وعرف أن البلدان لا تُبنى بكراهية الآخر وصناعة الأعداء، بل باحترام حق الإنسان في القول والفعل والحياة. ويحاول الزعماء الاعتذار عن تلك النقطة، وطي تلك الصفحة السوداء في التاريخ الياباني المعاصر.
بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، انغلقت على نفسها في عزلة طوعية، ولملمت شتاتها، وجمعت الفرقاء، واتفق الجميع على بداية جديدة، وظل الوضع في حالة من التخبط، إلى أن جاء الامبراطور مايجي، ووضع برنامجا طموحا لتحديث اليابان، وكان شعارها "بلد غني وجيش قوي"، ورفعت القوى مصالح اليابان فوق المصالح الشخصية، ونصت القرارات الإصلاحية على أن اليابان دولة ذات خصوصية فريدة لشعبها المتجانس، وإعلان الامبراطور أنه أب لكل اليابانيين، أي دولة واحدة وأب واحد، هو الامبراطور.
وللسلطة الشعبية صنع القرار النهائي عند الشعب، فقط إمبراطور يكون رمزاً لوحدة الشعب، من دون أن يشترك في أي قرارات حكومية.
وبذلك، لم يعد أمام اليابان وسيلة لتجد فرصتها للحياة الكريمة، إلا أن تحاول الاستغلال الأمثل لموردها الوحيد الذى لديها وفرة فيه، وهو العنصر البشري، فوضعت كل تركيزها، بعد الحرب العالمية الثانية، على كيفية استخدام إمكاناتها البشرية، بالطريقة التي تساعدها على تحقيق وفورات تمكنها من سد احتياجات السكان من الغذاء، واحتياجات التصنيع من الموارد المادية، وكان من وسائل الإدارة اليابانية في هذا المجال تبنيها استراتيجية، أحد أركانها الأساسية أن الموارد البشرية للمنظمة هي ثروتها الأساسية، وأغلى أصولها جميعاً. وما ترتكز عليه استراتيجية الإدارة اليابانية في معاملة العنصر البشري هو التأكيد على وحدة المصلحة بين المنشأة والعاملين فيها، لتحقيق أهداف المنشأة، بل تحرص الإدارة اليابانية، بالوسائل العلمية، على إشعار الفرد بأن هناك منفعة متبادلة بينه وبين المنشأة أو المؤسسة التي يعمل فيها، فكل ما يبذله من جهد من أجل بقاء المنظمة واستمرارها، ونجاحها، وتقدمها يعتبر ضماناً لبقائه ونموه وتقدمه.
وبشأن ماليزيا، فإنها اليوم في طليعة الدول المسماة النمور الآسيوية، وهي التي خرجت من أسر التخلف، ودخلت في نادي الدول المتقدمة، وهي الدولة المسلمة الوحيدة بين هذه الدول الاقتصادية، ويقوم اقتصادها على التنوع.
ترجع النهضة إلى اهتمام السلطة، وقائدها مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا آنذاك، بالمواطن قبل كل شيء، ما أدى إلى تبادل مشاعر الاحترام مع السلطة، تقوم الحكومة بإشراك المواطنين في النقاش بشأن القضايا الاقتصادية، عبر المجالس التي خصصت لذلك، ما يجعل المواطن الماليزي يشعر دائماً بأنه المستهدف من عملية التنمية، وأن نهضة بلاده تقوم عليه كفرد، قبل كل شيء، فعندما سأل أحد الاقتصاديين العرب عاملاً ماليزياً بسيطا عن سر المعجزة التي حققتها بلاده، أجاب ببساطة: طُلب منا العمل ثماني ساعات في اليوم، فعملنا ساعتين إضافيتين كل يوم حبا للوطن. ولا ننسى أن هذه الساعات الإضافية كانت تطوعية، لإيمانهم بأنها ستأتي بالخير للوطن وأبنائه.
جاءت ماليزيا في المرتبة التاسعة متقدمة السويد وإيطاليا والصين، ذلك كله من خلال أجندة وطنية، فرضت قيوداً صارمة على سياسة البلد.
فعبء المسؤولية وبناء وطن لا يقع على كتف المواطن فقط، ولا الزعيم فقط، وإنما هما معاً.