من لزم بيته فهو ميت!

11 اغسطس 2020
+ الخط -

تخبرنا تجاربنا، في السنوات التسع الأخيرة، بأن التغيير المنشود في بلادنا يحتاج سنوات، ومحاولات، ومكابدات، وضغطاً داخلياً مستمراً، ولعباً على التناقضات الإقليمية والدولية، وتحولاً من الثوري إلى الإصلاحي، ومن الغضب إلى التفاوض، وتجرّع السم أحيانًا، والرضا بأنصاف حلول، وبـ"عصر ليمون"، تقوية للمناعة النضالية، ودعما للمقاومة و"المقاوحة" والاستمرار. لم نعد نحلم، أو نتوقع، حلولا سريعة، أو إنقاذًا فوريا، مهما بلغت حالة المريض من تأخر وتدهور واقتراب من الموت، لم نعد نطمع حتى في هدايا القدر، فالأقدار لا تستجيب إلى إرادات الشعوب إلا في قصائد الرومانسيين، أمثال أبو القاسم الشابي، إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يتحمل كلفتها، صبراً ومعاناة ونفساً طويلاً، ومواجهة أنظمة وأجهزة وتحالفات قوية ومنحطة.
لا أظن أن تغييرا جذريا ينتظر لبنان في القريب، لكنني أرى، وملايين غيري، أن الموت ينتظر الجميع إذا استمر الحال على ما هو عليه. لا يوجد آمنٌ في لبنان، أينما تكونوا يدرككم الموت. الرصاص الحي في الميادين، ونترات الأمونيوم يحملها الإهمال من مرفأ بيروت إلى كل بيت فيها. نجح النظام في توصيل الموت إلى المنازل، وتحميل فاتورة الحساب على المقتول، لا القاتل، انفجر المرفأ وتحولت بيروت إلى كومة تراب. كنت أظن أن الانفجار وما تبعه من خراب ودمار ورعب، وموت 160 لبنانيا، في نصف نهار، غير آلاف الجرحى، والمشرّدين، والمفقودين، كنت أظن ذلك كله هو أفجع ما في المشهد، إلا أن قدرة الطبقة الحاكمة في لبنان على التعالي على المأساة فاقت كل التصورات، وتجاوزت البجاحة في قدرتها التدميرية أطنان الأمونيوم. لا توجد رواية واحدة متماسكة، لا يوجد مسؤول واحد يمكن مساءلته أو محاسبته، لا يوجد خطاب رسمي واحد لا يلقي باللائمة على غيره، لا يوجد ظهور سياسي واحد يمكن وصفه بأنه على مستوى المسؤولية. ظهر حسن نصر الله مبتسما، هاشا، باشا، هادئا، عاديا، كأن لبنان يواجه هزيمة منتخب كرة القدم، وليس كارثة مروّعة اهتز لها العالم. الدولة اللبنانية تطالب ضحاياها بالتوقف عن الألم، تهدّدهم بالحرب الأهلية حال استمرار الصراخ، تهدّدهم بالشغور، تتهمهم بالفوضى! اللبنانيون الذين واجهوا إهمالا مدمرا، وتحرّكوا بعد ساعات قليلة من الانفجار، على الأصعدة كافة، نظفوا شوارعهم، وأزالوا ما استطاعوا من آثار عدوان دولتهم عليهم، وفتحوا بيوتهم لمن لا بيت له، وملأوا فراغ الدولة، وخواءها، وغيابها، هؤلاء هم الفوضويون، فقط لأنهم يطالبون بالمساءلة والمحاسبة في جريمةٍ سقط ضحيتها مئات، وآلاف، بين ميت وجريح ومشرّد ومفقود، غير خراب العمران، ذلك كله "نظام" ومظاهرات اللبنانيين فوضى!
يطمع اللبنانيون في تغيير الحياة السياسية كلها، الطبقة الحاكمة كلها، النظام الطائفي كله، تغييرا جذريا، ثوريا، شاملا، "كلّن يعني كلن". حقهم، واجبهم. نطمع مثلهم، ونتمنّى، لكننا لا نتوقع. ما آمله حقا، وأتمنّاه، ولا أستبعده، وأراه قريبا، وواقعيا، إذا استمر الضغط، والاحتجاجات، هو تغيير الوجوه، ولو من داخل المنظومة الخربة، ووفق شروطها الطائفية. يحتاج لبنان، قبل أولا، إلى من هم أقل بجاحة، أقل صلافة، أقل رجعية، أقل استهزاءً بأرواح الناس ومصائرهم، أقل نهبا وسرقة وفسادا، أقل إهمالا ونطاعةً وبلادة. يحتاج إلى من هم أكثر مسؤولية، من هم على مستوى خادمة أفريقية، ليست من أهل البلد، لكنها من أهل بيتٍ من بيوته، تخدمهم، تأكل عيشهم، تحرّكت فورا، ومن دون تردد، لإنقاذ طفلةٍ من وجه الانفجار، فكّرت في مسؤوليتها، قبل نفسها، فنجت بنفسها وبمسؤوليتها معًا. تصرفت بعفوية، والتقطتها عدسة الكاميرا بعفوية، وكسبت احترام ملايين المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، في ثوانٍ معدودات. هذه الأفريقية لبنانية أكثر من نصر الله وعون والحريري وجنبلاط وجعجع، وأداؤها هو ما يحتاجه اللبنانيون في كل موقع من مواقع السياسة والحكم. وهو طموح اللحظة الراهنة، الممكن، والواجب، والمعقول، وهو المرهون، في تقديري، باستمرار المظاهرات والاحتجاجات والضغط، والغضب المشروع، إلى حين.