أورد عبد القادر ياسين وقائع تتصل بتاريخ منظمة التحرير وحركة فتح وقادتها؛ ومنهم الزعيم الفلسطيني أبو عمار الذي قال عنه: "لقد قضى وطنياً، هو وطني لكنه ديكتاتور". وتابع ياسين سرد لائحة اتهامات تتصل بممارسات سلطوية لعرفات؛ وعلى رأسها اغتيال بعض معارضيه ومنهم ناجي العلي، الفنان الذي لم يخف معارضته لعرفات ولم يخف عرفات وأعوانه تبرمهم بما يرسمه حنظلة.
لا يتفق كثيرون حول ذلك وقد وصلتنا ردود عديدة بعضها يستنكر وبعضها يؤيد، وسننشر منها ما يؤكد على الاختلاف ضمن الحوار الهادئ العقلاني ونبدأ بما كتبه الصديق الباحث صقر أبو فخر.
تصويبات:
يصحح أبو فخر "اسم "حسني صالح الخفاش" والصحيح هو "حسني صالح الخُفَّش"، وهو من أعلام الحركة النقابية الفلسطينية. واسم "وفيق شديد" أحد مؤسسي فتح، والصحيح توفيق شديد. كذلك وردت كلمة "حديتو" بالياء، والصحيح هو "حدتو" التي هي اختصار لعبارة "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني". وينسبها عن حق لـ "مشكلات التدوين وتفريغ الأشرطة". ويرى أبو فخر أن ياسين أخطأ بتاريخ انشقاق فتح الانتفاضة حيث وقع في 9/5/1983 وليس في 3/5/1983.
هنا رد الباحث الفلسطيني صقر أبو فخر على حوار الاستاذ عبد القادر ياسين:
التاريخ لا يُكتب بالنميمة
قرأت في "العربي الجديد" (27 و28/10/2014) الحوار الذي أجراه الزميل والصديق، أنس أزرق، مع صديقي القديم والدائم، عبد القادر ياسين الذي أعرفه منذ نحو خمس وثلاثين سنة، وترافقنا في دروب كثيرة في بيروت، وكانت مجلة "المصير الديمقراطي" من أشواط هذه الحياة المجلجلة. وأود أن أصحح الرواية الشائعة عن اغتيال ناجي العلي التي ما برح صديقي عبد القادر يعيد تلاوتها، بعدما باتت تفصيلاتها معروفة للقاصي والداني، وبعدما أصدرت محكمة الجنايات في لندن قرارها النهائي.
صديقي عبد القادر ياسين الذي قرأ الفاتحة حين انضم إلى الحزب الشيوعي في غزة، وصار عضوًا في اللجنة المركزية للحزب الذي لم يتجاوز عدد أعضائه عشية حرب 1967 ثمانية عشر عضوًا، يذكر في الحلقة الثانية من الحوار أن (أبو إياد) كان عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك الخمسة الأوائل الذين أسسوا حركة فتح وهم: عادل عبد الكريم ياسين وعبد الله الدنان وخليل الوزير ويوسف عميرة وتوفيق شديد. صلاح خلف ينكر ذلك، وأكد هذا الإنكار في كتابه "فلسطيني بلا هوية"، فهو يقول: "إنني، شأن ياسر عرفات، لم ألتحق بأي حزب سياسي. كنت أتعاطف مع الإخوان المسلمين، لكنني لم ألتحق بصفوفهم".
أما يوسف عميرة وأبو جهاد فهما من الإخوان المسلمين، لكن عادل عبد الكريم ياسين (نبيل حمدان) وتوفيق شديد لم يعرف عنهما الانضواء في تلك الجماعة، بينما عبد الله الدنان لم يكن إخوانيًا على الإطلاق.
كما أنه ليس من المقبول علميًا القول "إن جمال عبد الناصر كان يعرف أن فتح تابعة للحلف المركزي – بغداد سابقًا" (الحلقة الثانية). هذا "كلام كيدي"، والذي أشاعه هو صديقنا الراحل، شفيق الحوت، من باب الشتائم السياسية، ونشره في صحيفة "الأنوار" اللبنانية، وتبعه في ذلك غسان كنفاني في جريدة "المحرر"، وأحمد الشقيري أيضًا. وفي ما بعد، كان شفيق الحوت يتندر على تلك الطفولة التي وسمت مواقفه، في تلك الفترة التي كان فيها ناصريًا ومؤسسًا لـِ "جبهة التحرير الفلسطينية – طريق العودة".
مَن قتل ناجي العلي؟
ما برح عبد القادر ياسين مصرًا على أن أبو عمار أومأ برأسه للواء محمود الناطور (أبو الطيب)، فتم اغتيال ناجي العلي، لأنه رسم كاريكاتيرًا يتعرض فيه لعرفات ورشيدة مهران. وهذا كلام لا يمكن الركون إليه، وهو من باب النميمة التي شاعت في الأوساط الفلسطينية.
فصديقي أبو جميل لم يكن موجودًا حين "أومأ أبو عمار"، ومَن نقل إليه هذه "الخبرية" مجهول، و"المتهم" ياسر عرفات استشهد. فماذا يبقى من عناصر التحقق؟ لا شيء بالتأكيد، لأن هذه التهمة مجرد حكاية أشاعها أبو نضال (صبري البنا) وزعرانه، مثلما أشاع، سابقًا، أن أم أبو إياد يهودية، وتبين أنها من آل السقا المسلمين. وحتى لو كانت يهودية، فما الضير في ذلك؟ فالمعروف أن عددًا من المناضلين الفلسطينيين ممن سجنوا أو اختطفوا هم من أمهات يهوديات أمثال كمال النمري ووليم نصار وسمير أبو غزالة (الحاج طلال) ومحمود زايد وغيرهم.
ومهما يكن الأمر، فليس صحيحًا ما أورده عبد القادر ياسين عن وقائع اغتيال ناجي العلي في لندن، فهذا الاتهام شاع غداة اغتيال ناجي 22/7/1987، وروّجه كثيرون راحوا يكتبون أن ياسر عرفات من أصل يهودي مغربي، وأن آل القدوة الذين ينتسب عرفات إليهم جاءوا من بلدة "قدوة" المغربية إلى فلسطين (شارك في هذه اللوثة ناجي علوش وغازي حسين).
وللأسف، فما برحت هذه الأُغلوطة متداولة أما الرواية الصحيحة لاغتيال ناجي العلي فهي على النحو التالي: في سنة 1986 عندما كان نوام عدموني رئيسًا للموساد، اكتشف الألمان ثمانية جوازات سفر بريطانية مزورة بإتقان، وتبين أن هذه الجوازات أُعدت لفريق الموساد في لندن، ومنهم شخص فلسطيني، يدعى إسماعيل صوان. لكن، ما هي المهمة التي كانت تنتظر هذا الفريق؟
كان للموساد آنذاك هدفان: الأول قطع الطريق على العلاقات الفلسطينية – البريطانية التي راحت تنمو بعهد تاتشر، تمامًا مثلما جُنَّ يتسحاق حوفي (1973) حين علم بتفصيلات التفاهم الأميركي – الفلسطيني الذي وقعه أبو حسن سلامة وروبرت آيمز، غداة الهجوم على السفارة الأميركية في الخرطوم، والثاني اغتيال مندوب "17" في السفارة الفلسطينية في لندن، عبد الرحيم مصطفى، للاشتباه بتجنيد متطوعين ضد المصالح الإسرائيلية.
وكان للموساد عميلان هما: إسماعيل صوان (من بلدة السواحرة الشرقية) الذي كانت مهمته مراقبة كارلوس في فرنسا، ولما فشل، أُرسل إلى لندن، لمراقبة عبد الرحيم مصطفى والاندساس بين الفلسطينيين، وبشار سمارة (من الجولان) الذي تولى مهمة الوصل بين صوان و"ضابط الحالة" في السفارة الإسرائيلية.
وفي لندن، عمل إسماعيل صوان على تطوير علاقته بعبد الرحيم مصطفى، وقبيل اغتيال ناجي العلي، أخفى الموساد حقيبة أسلحة لدى صوان، وما إن شاهَدَ صوان خبر اغتيال ناجي العلي على التلفزيون، حتى دب الرعب فيه، وغادر لندن مع زوجته إلى تل أبيب، والتقى ضباط الموساد الذين طمأنوه، وطلبوا منه العودة إلى لندن، وفور وصوله لندن، اعتقلته المخابرات البريطانية، ووجهت إليه تهمة اغتيال ناجي العلي. وحُكم عليه بالسجن 12 سنة، أمضى منها ثماني سنوات، وفور خروجه، سافر إلى إسرائيل التي تدبرت له لجوءًا إلى السويد، خوفًا عليه من الاغتيال، بعدما اغتالت المقاومة شقيقه إبراهيم 1988 بتهمة العمالة. أما بشار سمارة، فقد اعترف فدهمت المخابرات البريطانية منزل ضابط الحالة في محطة الموساد في لندن "ألبرت"، والذي كان في طريقه إلى تل أبيب.
يقول عبد القادر ياسين إن محكمة لندن حكمت على مندوب "القوة 17" بالترحيل، وعلى العميل المزدوج بالسجن. وهذا غير صحيح على الإطلاق، لأن عبد الرحيم مصطفى كان قد غادر لندن في يناير/كانون الثاني 1987، أي قبل عملية الاغتيال بسبعة أشهر.
ثم لماذا يُحكم بالترحيل، إذا كان مشاركًا بالاغتيال؟ فهو لا يتمتع بأي حصانة دبلوماسية، ومكتب منظمة التحرير في لندن مكتب تمثيلي وليس سفارة. وفي أي حال، فإن عبد الرحيم مصطفى شارك في معارك الدفاع عن المخيمات في لبنان، واعتقلته حركة أمل ستة أشهر، ثم سلمته إلى المخابرات السورية، وخرج من السجن 1985 وعاد إلى فلسطين لاحقا حيث اعتقلته القوات الإسرائيلية في خضم الانتفاضة الثانية في 15/7/2002.
ولو كان هو فعلًا مَن اغتال ناجي العلي لكانت إسرائيل "طنطنت" به على محطات التلفزة، واستعملته لشرشحة ياسر عرفات. وقصارى القول إن تحقيقات المخابرات البريطانية أدت إلى طرد آرييه ريغيف (ملحق في السفارة الإسرائيلية) وبشارة سمارة من لندن، وسجن إسماعيل صوان، وطرد ثلاثة إسرائيليين آخرين من محطة الموساد في لندن، بينهم يعقوب براد. ولم توجه المحكمة أي اتهام لمنظمة التحرير الفلسطينية في شأن اغتيال ناجي العلي.
* * *
إن مهمة المؤرخ هي البحث عن الحقائق والدلائل اليقينية، ولا يمكن كتابته استنادًا إلى النمائم والروايات الشفهية والخبريات المرسلة والشائعات، بل استنادًا إلى الوثيقة والتقارير الصحيحة والوقائع الثابتة. وعلى المؤرخ النزيه أن يدحض الروايات المهلهلة والأغاليط والترهات الإخبارية، وأن يُنقّي التاريخ من الأكاذيب، أما النميمة فهي، فضلًا عن انحطاطها وابتذال أصحابها، قادرة أن تطال الجميع، بمن فيهم صديقي عبد القادر ياسين.
أَلم تُلحق به الفصائل التي انضوى في صفوفها مثل "النُفيضة"، بحسب تسميته لـِ "فتح الانتفاضة"، شائعات كثيرة عن علاقته بالأجهزة المصرية، ودليلهم إلى ذلك زياراته مصر بين الفينة والأخرى؟ أَلم يشيعوا ضده كلامًا عن علاقته بالأجهزة السورية، والدليل أنه يحمل جواز سفر سوريًا؟ وأنا أعرف أن هذه الشائعات كلها هراء، والذين أطلقوها مبتذلون وكذابون، فهم لم يوفروا حتى أستاذنا الكبير أنيس صايغ. وهؤلاء الذين عملتَ معهم يا صديقي أصابك منهم ما علمتم وذقتم، فما رأيك لو أن أحدهم كتب عنك مقالة استنادًا إلى هذه الشائعات؟