في سبعينيات القرن الماضي، والمقاومة الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها تراقب بوصلة أحداثٍ لا تستقر على اتجاه محدد، أحسستُ خلال نقاش عابر مع أحد المنتمين لتنظيم فلسطيني متخم بالمال والسلاح بشيء مريب.
كان هذا المنتمي يقترب من حافة التنكر لوحدة الأرض الفلسطينية، بل لوحدة الدوائر الثلاث: فلسطين المحتلة في العام 1948، وما تسمى حتى الآن بالضفة الغربية رغم أنها لم تعد ضفة لشرق نهر الأردن، وقطاع غزة، وأخيراً دائرة الشتات الفلسطيني. كان يتحدث عن "فلسطين" بحجم قريته، أو بحجم ما يرمي إليه تنظيمه؛ غزة أو أريحا كما ظهر في ما بعد.
ووجدتني أنبّه هذا المنتمي إلى أن بالإمكان تدمير المستعمرة الصهيونية ولكن من الصعب اقتلاع المستعمرة الصهيونية حين تقام في عقله. كنت أعني، أو أتلمس، هذا الصراع الفكري/الثقافي الذي سينشب ويصل ذروته في تسعينيات القرن الماضي وصولا إلى الزمن الراهن بين الخطاب الوطني بمختلف شرائح المعبرين عنه، وبين خطاب هزيمة واستسلام لم يعد يتلعثم، وأيضاً بمختلف شرائح المنتفعين منه، ولا أقول المعبّرين عنه، لأن أصحاب هذا الخطاب لا يعبرون بل يستعيرون كما تستعير الببغاوات تعابير الخطاب الاستعماري، سواء نطق به خليط الجنسيات التي تستعمر الأرض الفلسطينية، أو نطق به رعاتهم الغربيون بمختلف هوياتهم.
الخطاب الوطني كان واضحاً منذ البداية، أعني منذ أن أطلق عز الدين القسام رصاصته الأولى الواعية في وجه المستعمر الأساسي، البريطاني، ولم يلتفت إلى تحذيرات أصحاب مصانع الشمنتو والمكانس والجوخ على حد تعبير سامي السراج الصحافي الذي رافق هذا الحدث التاريخي.
تحذيرات هؤلاء لم تكن نابعة من نوع من الواقعية أو الخشية على حياة المقاومين في ذلك اليوم، بل نابعة من الخشية على علاقاتهم المنفعية بالمستعمر، فكان خطابهم تعبيراً عن الخوف حين أدركوا أن مدن وقرى فلسطين لم تعد تصغي لتوسلاتهم وثقتهم "بفخامة المندوب السامي البريطاني".
ومثلما كان الأمر بالأمس، تتكرر المواجهة الآن بين الخطابين على كل صعيد؛ على الصعيد الثقافي والاجتماعي والعسكري. ولكن من الملحوظ أن المواجهة تشبه مواجهة بين خطاب نقدي مُحرِّر للمخيلة والعقل وخطاب دماغ استوطنته مستعمرة صهيونية يرفض النقد والمراجعة مهما بلغ حجم الخسائر.
فهل من الممكن أن يحوّل روائي "فلسطيني" المستعمر الصهيوني إلى إنسان كامل الأوصاف، ويجرد الفلسطيني من أي سمة إنسانية، ولا يكون من هؤلاء "المثقفين" الذين استعمرت أدمغتهم السردية الصهيونية بطريقة مبتذلة؟
ومن الملحوظ أيضاً أن هذه المواجهة بين خطاب تحرير وخطاب يستبطن الهزيمة والاستسلام تحت ذرائع، مثل "عملية السلام" وحتى "المقاومة السلمية".. وما إلى ذلك، اتخذت أشكالا من الصدام متنوعة تجاوز فيها خطاب الذرائع الإذعان للسردية الصهيونية إلى التعاون الثقافي والأمني مع المحتل الصهيوني، واستخدام كل وسيلة ممكنة لتغييب خطاب التحرير ومنعه من الوصول إلى أوسع القطاعات الجماهيرية الفلسطينية، وإن استعصى خطاب التحرير على هذه الوسائل وتمكن من الوصول بل والتأثير وإحداث فرق، لجأ أصحاب خطاب الذرائع إلى سلاح التشويه والمنع.
حدث هذا حين تم تجنيد "مثقفين" فلسطينيين لتشويه سيرة حياة وفن "ناجي العلي" قبل اغتياله في لندن في العام 1987، وحدث حين مُنعت كتب المفكر الفلسطيني "إدوارد سعيد" من دخول مناطق سيطرة "إدارة الحكم الذاتي" الفلسطيني.
إن أشكال الصدام بين الخطابين لا تتنوع فقط، بل وتتصاعد وتتخذ شكل حرب إفناء مؤسفة على كل صعيد، بدءاً من قمع الكلمة والصورة وصولا إلى مطاردة واعتقال كل صوت وطني ناقد.
(كاتب فلسطيني/ الكويت)