من انتفاضة القدس إلى انتفاضة الغيتو

15 أكتوبر 2015
غاية الاحتلال من إجراءاته تهدئة الشارع الإسرائيلي (فرانس برس)
+ الخط -

دخلت القدس المحتلة، في يومها الخامس عشر من الانتفاضة، في حالة ترقبٍ والتقاط أنفاس في انتظار بدء الاحتلال في تطبيق سياسة الغيتوهات (المعازل) التي اختار الاحتلال فرضها على الفلسطينيين في القدس، بالتوازي مع استمرار اعتماده على سياسة الإعدامات الميدانية بحق الفلسطينيين. وهو ما تكرر أمس، إذ أعدمت قوات الاحتلال فتى فلسطينياً في منطقة باب العامود بمدينة القدس مدعية محاولته تنفيذ عملية طعن، وهو ما نفاه شهود عيان لـ"العربي الجديد". كما استشهد شاب فلسطيني في المحطة المركزية بالقدس بعد إطلاق النار عليه من قبل جنود الاحتلال بادعاء طعنه مستوطنة.

وتأتي تطورات الأمس بعد تصعيد الاحتلال من إجراءاته الأمنية، بما في ذلك إعلان قرارات الكابينت الإسرائيلي حول تخويل شرطة الاحتلال صلاحيات فرض طوق أمني على الأحياء الفلسطينية في القدس المحتلة. كما بدأ الاحتلال نشر الكتل الإسمنتية مجدداً عند محطات الباصات، ونصب حواجز التفتيش عند مداخل القرى والأحياء الفلسطينية، بعد إغلاق المنافذ والمخارج المختلفة لهذه الأحياء والإبقاء على نقطة واحدة أو اثنتين في أقصى حد للقرى والأحياء المتاخمة للأحياء الاستيطانية على خطوط التماس في القدس.

كما قام الاحتلال بنشر المئات من عناصر حرس الحدود في مختلف أنحاء المدينة بشطريها الغربي والشرقي، ظناً منه أنّ تكثيف الوجود المرئي للشرطة وعناصر الأمن من شأنه أن يحقق معادلة الردع المطلوبة. لكن مجريات الأيام الأخيرة ووقوع العمليات حتى قرب المقر القُطري لقيادة الشرطة وحرس الحدود في الشيخ جراح، وعلى مسافة أمتار من عشرات الجنود في باب العامود، توحي بأن الغاية المطلوبة هي الاتجاه أكثر لتهدئة الشارع الإسرائيلي.

وتشير سلسلة القرارات التي اتخذها الكابينت الإسرائيلي، وعلى رأسها استدعاء ست فرق من الجيش النظامي، والمصادقة على استدعاء 1400 جندي احتياط من حرس الحدود، وإقرار إعادة الحراسة للحافلات والمواصلات العامة، إلى أنه وخلافاً للتصريحات المعلنة، فإن التقديرات الأمنية التي قامت عليها هذه القرارات، وفق توصيات الجيش والشرطة وجهاز "الشاباك"، بأن أيام الانتفاضة مقبلة وليست في وارد أن تخبو نارها وإن مرت ألسنتها بحالات مد وجزر.

ولعل العامل الأكثر تأثيراً في الأيام المقبلة، هو شكل الطوق الأمني، وحالات الإغلاق على الأحياء الفلسطينية، وحالة الضغط التي يبني الاحتلال عليها، ليُخضِع لها نحو 370 ألف فلسطيني في القدس، بعدما بدا أن القدس عادت لتبقى وحيدة في ظل تمكّن السلطة الفلسطينية من ضبط إيقاع وحجم التحرك الشعبي في الضفة الغربية كما يبدو حالياً، على الرغم من بوادر التحرّك في الجبهة الجنوبية على قطاع غزة.

وعلى الرغم من محاولات رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطابه التصعيدي، الإيهام وكأن ضرب الانتفاضة بات قريباً، إلا أن الخطة اللوجستية لنشر قوات الجيش وفرقه التي استُدعيت للمشاركة في تأمين المدن الإسرائيلية، تحتاج لجدول زمني قد يكون هو العامل الفارق أو المطلوب فلسطينياً لنقل الانتفاضة إلى مرحلة مقبلة قد تتحوّل فيها إلى انتفاضة غيتوهات، في حال أحكم الاحتلال تطويق الأحياء الفلسطينية، على الرغم من إعلانه عن التمييز بين أحياء "مُسالمة" وأخرى "معادية" كحالة جبل المكبر ومخيم شعفاط مثلاً.

ويحذر محللون يهود من "مخاطر" هذه الأطواق المرتقبة، والتي قد تُنفَّذ وتُفرَض بشكل انتقائي في المرحلة الأولى كما يبدو، ثم سيتم تطبيقها على أحياء أخرى، لا سيما تلك التي كانت في الأصل قبل الاحتلال قرى فلسطينية مستقلة وبعيدة عن القدس، ولم يُقِم الاحتلال أحياء أو مستوطنات إسرائيلية في أرضها المباشرة، وإن كانت لا تزال تجاور أحياء استيطانية، على غرار قرية العيساوية التي تم إغلاق مخارجها الشرقية على طريق معاليه أدوميم، والطريق المؤدية إلى الجامعة العبرية والإبقاء على طريق واحدة، أو قرية أم طوبا التي أقيمت مستوطنة هار حوما على أراضيها، خلافاً للأحياء البعيدة بعض الشيء عن خطوط التماس مثل العيزرية وأبو ديس، أو السواحرة الشرقية والغربية.

في المقابل سيحوّل الاحتلال حياة الناس في الأحياء التي استوطن الإسرائيليون في وسطها، إلى جحيم، كما في حالة سلوان وراس العامود، أو الشيخ جراح.

اقرأ أيضاً: الاحتلال يبدأ في تطويق الأحياء الفلسطينية في القدس المحتلة

ويستغرق مفعول هذه الإجراءات أو رد الفعل عليه بعض الوقت، من دون أن يعني ذلك توقّف الانتفاضة. لكن هذا الوقت، مع ما يصاحبه من تفاعلات للإجراءات الإسرائيلية المعلن عنها، يزيد من حالات القهر والقمع، خصوصاً عندما يصبح الخروج أو السفر من الحي الفلسطيني المحدد، كالعيساوية، أو الطور مثلاً، إلى مكان العمل في الشطر الغربي من المدينة، درب آلام. وعند الأخذ بالحسبان أن أكثر من 35 ألف فلسطيني يعملون في الشطر الغربي من المدينة، وفي مرافق الخدمات، فإن المواجهات اليومية أو الوقوف والانتظار عند الحواجز، ستكون عوامل أولى للمواجهة، بل إنها تُقرّب خطوط الاشتباك وتزيد من حالات اندلاع الغضب وتفجيره في وجه أول رمز لرموز الاحتلال.

فالاحتلال الذي انهمك في الأسابيع الأخيرة في محاولة تحليل وقولبة "بروفيل" جيل الانتفاضة الجديدة، ليصل إلى أنه جيل الشباب اليائس من فرص ومن أفق المستقبل، يزيد في بنائه لهذه "الغيتوهات"، من رقعة ونطاق المواجهة المحتملة، إذ لا يضيف إليها فقط فئة الشباب الذين يصفهم بأنهم يائسون، حتى يغيّب كلياً واقع الاحتلال، محاولاً تقزيم أسباب الهبّة إلى التحريض الديني في مسألة تقسيم القدس والأقصى، من جهة، واشتغال المهنيين عنده بمسائل تحسين ظروف المعيشة وإيجاد الأمل بمستقبل أفضل للشباب (تحت الحكم الإسرائيلي)، بل إنه من خلال واقع الغيتوهات التي يبنيها أو الأسوار الأمنية والأطواق التي يحوّل بها الأحياء الفلسطينية إلى غيتوهات سيكون الدخول إليها والخروج منها بإذن، فإنه يستدعي عملياً مواجهة شعبية شاملة من مجمل شرائح المجتمع الفلسطيني في القدس.

يُذكر أن سكان القدس المحتلة، خلافاً لأهالي الضفة الغربية، لم يعتادوا على حياة الحواجز المباشرة على عتبات بيوتهم في العقد الأخير، وسيجدون أنفسهم اليوم محاطين بنقاط تفتيش وحواجز شرطية وعسكرية مع تقييد هائل لحرية التنقل الفردية سواء للشباب أو الكبار.

أما الخطوات "السريعة التنفيذ" الأخرى المتعلّقة بالعقوبات الفردية على عائلات منفذي العمليات، كهدم البيوت ومصادرة أراضيها ومنع العائلة من إعادة بناء البيت، والتهديد بالطرد من القدس وسحب الإقامة من أهل منفذي العمليات، فهي لن تؤثر على ما يبدو وفق قناعات الأجهزة الأمنية نفسها التي كانت وراء إلغاء هذا النمط من الممارسات بعد الانتفاضة الثانية، بعدما تبيّن لها أنها ليست وسيلة رادعة.

وبالابتعاد عن التسميات الإسرائيلية التي تحمل الطابع "الأمني" كما يريد الاحتلال، فإن واقع الخطوات الإسرائيلية هو عملياً حصار وعقوبات جماعية لمجمل سكان القدس، ولن يكون الاحتلال قادراً في مدى بعيد على تحمّلها، لكنها ستخلق على المدى القصير حالة احتقان وتوتر شديدين، ولن يطول الوقت قبل الانفجار خصوصاً في حال سيَّر الاحتلال دوريات عسكرية في عمق الأحياء العربية، ليجعل من هذه الدوريات، ونقاط التفتيش هدفاً في متناول يد الانتفاضة.

اقرأ أيضاً: معادلات جديدة للانتفاضة

المساهمون