من البوعزيزي إلى كاسترو

26 ديسمبر 2016

كاسترو ومحمد البوعزيزي

+ الخط -
في الذكرى السادسة لإقدام التونسي محمد البوعزيزي على إحراق نفسه، وهي الحادثة التي كانت بمثابة "القشة" لإشعال الثورة التونسية، ثم تدحْرُج كرتها خارج الحدود لدى شعوبٍ عربيةٍ مقهورة، لتطالب، بعيداً عن كل نظريات المؤامرة التي سادت منذ ذلك الحين، بحرياتها حقاً تاريخياً منشوداً، يمكننا أن نعرف كيف تغيّر مفهوم الحرية لدى الشعوب العربية، من خلال قراءة كيفية استقبالها خبر رحيل الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، وهو الذي مثّل، في عقود طويلة، رمزاً للتحرّر من الاستعمار والمطالبة بالكرامة الوطنية، للشعوب العربية، كما لشعوب العالم الثالث قاطبة.
اللافت أن عرباً كثيرين جاهروا بأنهم لا يرون في كاسترو نموذجاً جميلاً للحكم والسلطة، يشبه أحلامهم عن الحرية؛ بل مجرد "حاكم فرد" كالذين نعرفهم في بلادنا وتاريخنا المعاصر. وأغلب الظن أن ردة الفعل هذه لم تكن لتحدث، لو مات كاسترو قبل الثورات العربية.
حدث الشيء ذاته قبل ثلاث سنوات، يوم توفي الرئيس الفنزويلي، هوغو تشافيز. يومها قال العرب عن تشافيز كالذي يقولونه اليوم عن كاسترو، وهم الذين كانوا قبل الثورات شديدي الإعجاب بالرجلين الصامدين في وجه الإمبريالية الأميركية.
لم يكن تشافيز، مثلاً، مستبداً ولا طاغية، بل كان رئيساً منتخباً فعلاً، في انتخاباتٍ حقيقية فعلاً، وحكم بإرادة شعبه ودعمه فعلاً؛ وهو الذي حاول الوصول إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، فشل في عام 1992، قبل أن ينجح مراراً منذ 1998 من خلال صندوق الاقتراع، ليواجه بعدها محاولة انقلابية فاشلة، عام 2002، نفذها قادةٌ في الجيش، بدعم من الولايات المتحدة، ويتغلب عليها، ليعود إلى قصر الرئاسة منصوراً بمحبة الشعب ودعم الجيش، ويبقى فيه حتى وفاته عام 2013.
أما كاسترو فقد مثل بطلاً عظيماً وعنيداً. ظل يمثل فكرة "المنقذ المخلّص" الذي تحلم به الشعوب المقهورة. وربما لهذا السبب بقي سنوات طويلة بطلاً في أعين شعوبٍ مقهورة كثيرة، منها الشعوب العربية التي كانت ترى فيه زعيماً ناجحاً وظافراً وقادراً على الانتصار.
هكذا يكون تناول رحيل كاسترو اليوم من زاوية أنه "زعيم أوحد مستبد"، لا نموذجاً للبطولة والانتصار على الاستعمار، مؤشراً على تغيّر جذري أصاب "صورة البطل" في مخيلتنا، نحن العرب، عقب ثورات الربيع العربي التي اكتشفت فيها شعوبنا أن خلاصها يمكن أن يتحقق بدون قائد بطل، خصوصاً أن المخلّص البطل ظل أبداً يتحول إلى دكتاتور؛ فيمكث في السلطة حتى يموت، ويمارسها بتسلطٍ وشموليةٍ باعتباره "قائداً ملهماً"، وقد يورثها لأحد أبنائه، فـ"السلطة مفسدة"، حتى للأبطال.
في ظل تغيّر نظري جذري كهذا، لم يعد ممكناً ممارسة السلطة في العالم العربي على طريقة "البطل"، حتى بعد الفوز في انتخابات رئاسية. بكلمات أخرى، لم يعد مقبولاً حتى لمن يصل إلى السلطة بالانتخابات، ممارستها انطلاقاً من أنه حاكم مطلق، لأن الانتخابات ليست إلا تفويضاً شعبياً مؤقتاً، لا يتيح إقامة الإمبراطوريات التي يحلم بها المؤدلجون، ويرون فيها نجاح الأمة.
أما مصدر الخلل بين الأحلام الأولى في إقامة إمبراطوريات صاحبة أمجاد، كالتي قرأنا عنها في كتب التاريخ، وبين استحالتها على أرض الواقع، فإن "الأحلام الأولى" لم تكن تتصوّر أبداً بلوغ السلطة من خلال انتخابات وصندوق اقتراع، وإنما على طريقة أحلام تشافيز الأولى في بلوغ السلطة بالقوة، وفرض الأمر الواقع.
هكذا، بات على الأجيال العربية الجديدة التي تحلم بخير أمتها وتقدّمها ونجاحها، أن تغيّر نمطية الأحلام التي عرفناها على مدار العقود الماضية، ودارت حول ظهور البطل المخلّص الذي يقودنا من الظلم والتخلف إلى العدل واستثمار الموارد لتحقيق التحرير والاستقلال والازدهار. علينا أن نحلم بالمشاركة والحريات العامة وسيادة القانون والممارسات المؤسسية، ولا نريد أبطالاً أفراداً، ولا متاجرين بأحلامنا الأولى التي تورّث يأساً وخراباً حين تنهار، كما ظل يجري، كلما انهار واحدٌ من أحلامنا، منذ ظهور الدول العربية الحديثة.
كم تغيّرنا بعد محمد البوعزيزي.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.