من أحلام الثّورة السورية
ثمّة كتب لا يحقّ لنا، لأهمّيتها، أن نُغفلها. كيف؟ ببساطة، بقراءتها والكتابة عنها والسعي إلى تعريف العدد الأكبر عليها. الكتب المهمّة كلّها تستحقّ اهتمامنا، صحيح، ومن بينها، أخيرًا، كتاب المستعرب النرويجي، بنديك سورفيغ، الذي يروي مشاهد من أيام الثورة السورية، منذ انطلاقتها وحتى عام 2017، من خلال سِيَر ستّةٍ من ثوّارها وناشطيها. لقد سكن سورفيغ بيروت طيلة عقدين زار خلالهما سورية مراراً، حيث قابل "أبطاله" وعايشهم عن كثب، وقرّر أن يكتب سيرهم ومعايناته في كتابٍ صدر عن مؤسسة دار الجديد في بيروت (الترجمة الجميلة عن النرويجية لمحمد الحاج صالح، مراجعة رشا الأمير)، تحت عنوان "في الظلمة تتفتّح الأحلام...".
ومثلما تبدأ كلُّ سيرةٍ بلحظة ولادة، فقد قرّر الكاتبُ أن تكون هذي اللحظة هي إلقاء بشّار الأسد خطاب 30 مارس/ آذار2011، عقب أحداث درعا وخروج المظاهرات الأولى، ومشاهدته ممن سنتعرّف لاحقا إلى معيشهم ومعاناتهم، إثر قرار الرئيس السوري الذهاب في مواجهة "المتآمرين" إلى النهاية، فإلى جانب الكاتب السياسيّ المعارض المعروف، ياسين الحاج صالح الذي سجن 16 عاما، وغادر سورية سرّا في أثناء الثورة، تفاديا لتكرار التجربة المريرة، وزوجته سميرة الخليل المناضلة العلوية التي عرفت السجن أربع سنوات، ثم خطفت في دوما مع رزان زيتونة وناشطيْن آخريْن، سوف نتعرّف أيضا إلى مارسيل شحوارو من حلب، وعُبيدة أبو قويدر (23 سنة) من درعا، ومروان عبد الحميد (18 عاماً) من كفرومة في محافظة إدلب، وكاوا الكردي (20 عاما) طالب الطبّ.
عُبيدة، وحيد والديه، رياضي بعيد عن السياسة، وقريب من التخرّج مهندس اتصالات، ومقبل على الزواج. شارك في تظاهرات درعا، إذ رأى بريقا في الأعين، وكسرا للخوف لم يشهده من قبل. مارسيل شحوارو، هي ابنة مدينة حلب العريقة وابنة القس الأرثوذكسي والمدوّنة المسالمة اللاعنفية التي كانت المخابرات تتابع كتاباتها ومن ثم الثوّار، خاصة بعد إنشائها مدونة "كش ملك"، وانقسام حلب غربية شرقية. مروان شاب من كفرومة، البلدة الإدلبية، أمه حموية، وقد استدعي للمثول أمام فرع الأمن، بعد أن شارك في المناداة لأول مظاهرة في البلدة. وأخيرا كاوا، الكردي وطالب الطب في جامعة دمشق الذي اعتقل عشية تقديم امتحاناته، في أحد سراديب الجامعة، حيث يوجد سجن يديره الاتحاد الوطني لطلبة سورية، أحد أذرع حزب البعث، فعُذّب على يد زملائه الذين سمعوه متعاطفا مع المتظاهرين في درعا، قبل أن يُنقل إلى سجون الرعب والتعذيب، القسم 215، ثم فرع الخطيب.
من فصل إلى آخر، سوف نتابع ما سيجري لهؤلاء، بأسلوب شائق وأمين، وبلغةٍ أدبية مشغولة، حوّلت النصّ، في مطارح عديدة، نصّا أدبيا، مشوّقا في بنائه، متأنّيا في توصيفه وتصويره "شخصيات/ أشخاص"، من دون إضاعة أيٍّ من خيوط تاريخ سورية الحديث، تشكيلاتها الطائفية والطبقية، لا بل حتى خصائصها الجغرافية. هكذا، من مصير إلى مصير، ومن حدث سياسي وأمني إلى آخر، يتكوّن لدى القارئ مشهدُ فسيفساء ضخمة ترسم المشهدَ السياسيّ والاجتماعيّ في أدق تفاصيله وتحوّلاته، بقدر ما تتقن توصيف الشخصي والذاتي والخاص في ترابطه وتفاعله مع العام.
والحال، أن بنديك سورفيغ، وعلى الرغم من اعتماده وجهة نظر الثوار والمعارضين في قراءة الواقع السوري، لم يغفل أيا من مراحل الثورة وتحوّلاتها، بدءا بتشكيل مجلس وطني كان حضور "الإخوان المسلمين" فيه طاغيا، مرورا بتشكيل "الجيش السوري الحر"، الذراع العسكرية لثورةٍ لم يعد يمكنها أن تبقى سلمية، وصولا إلى تكاثر الحركات الإسلامية السلفية، مثل أحرار الشام وجبهة النصرة وجيش الإسلام و"داعش"... في "الخاتمة" التي وضعها سورفيغ في 1 سبتمبر/ أيلول 2017، في أوسلو، يخبرنا أن مروان بقي حيث هو، وياسين وكاوا انتقلا إلى برلين، وعُبيدة تزوّج مها وهما الآن في الأردن، ومارسيل ذهبت إلى جامعة كولومبيا في نيويورك لدراسة الكتابة الإبداعية. هؤلاء نجوا، لكنّ الثورة وسورية لم تفعلا.
"حُلمُ الذين خرجوا إلى الشوارع ربيع 2011، بالحريّة والكرامة، تحطّمَ، مخلّفا واحدةً من أعظم مآسي هذا العصر. لكن هذا الحلم حيٌّ في ضمائر (...) وملايين السوريين الذين اجترحوا انتفاضة تشبههم. سورية اليوم في ظلامٍ دامس ولكنْ، أليس في الظلمة ما تتفتّحُه الأحلام؟".