30 أكتوبر 2024
من "تمرّد" إلى "بريكست"
ما الذي حصل في استفتاء البريطانيين حول بقائهم أو انفصالهم عن أوروبا. نتيجته يعرفها الجميع، وهي التي حسمت خيار الانفصال، ولكن، لأول مرة في تاريخ الاستفتاءات الشعبية لا نكاد نجد من يريد تبني "فوزاً" يبدو مستحقاً، لأنه خرج من صناديق الاقتراع في أجواء ديمقراطية، فزعماء تيار الانفصال أعلنوا تراجعهم إلى الوراء، بعدما "أنهوا المهمة"، وتركوا خلفهم شعباً منقسماً على نفسه، ما بين منتصرين، لا يعرفون ما يفعلون بنصرهم، ومنهزمين خائفين مما يخبئه لهم مستقبل بلادهم.
لمعرفة ما حصل، يجب العودة إلى لب النقاش الذي كان سائداً طوال الحملة التي سبقت الاستفتاء، وهو نقاش أطرته، وأثرت فيه، إلى حد كبير، وسائل التواصل الحديثة، فإلى أي حدٍّ ساهمت هذه الوسائل في تحوير النقاش الديمقراطي الذي ابتعد عن الوقائع، وركّز على العواطف والانطباعات الشخصية، مستعملاً، في أحيانٍ كثيرة، معطياتٍ غير صحيحة، اتضح في ما بعد أنها كانت مجرد وعودٍ كاذبة أطلقها السياسيون في معسكر الانفصال عن أوروبا، وساهمت في التأثير على إرادة المشاركين في الاستفتاء؟
ما حصل في استفتاء الـ "بريكست" كما يسمى، مازال أمراً جديداً وطارئاً على علم التواصل الحديث، وينبغي أن ننتظر، حتى يهدأ الصخب الذي رافق هذا الاستفتاء، لتنكشف الحقيقة، حقيقة ما جرى لحمل الناس على التصويت لمشروعٍ يكاد لا يجد اليوم من يدافع عنه. فإلى أي حدٍّ تم استعمال نظرية "عقلية الجماهير"، للحسم في نتائج استفتاءٍ كان موضوع استقطاب حادّ داخل المجتمع البريطاني؟ وما هو الدور الذي لعبته وسائل التواصل الحديثة، وخصوصاً المواقع الاجتماعية الكبيرة في تشكيل رأيٍ عام مؤيد للانفصال، وفرض أجندة معسكر الانفصال، لتوجيه اهتمام المشاركين في هذا الاستفتاء؟ مجموعة أسئلة يصعب الإجابة عنها هنا في عجالة. أولاً، لعدم توفر كل المعطيات المحيطة باستعمال وسائل التواصل الحديثة في التأثير على إرادة الناخبين في هذا الاستفتاء. وثانياً، لأنه ما زال يصعب الحسم في قدرة شبكات التواصل الاجتماعي على التأثير، وصناعة ما يمكن أن نسميه رأياً عاماً إلكترونياً، ومدى قدرة هذا الرأي العام على اختراق الواقع؟
الرأي الذي ظل سائداً هو أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تصنع رأياً عاماً، وإنما تعكس الرأي العام الموجود. وهناك من كان يرى فيها مجرد وسيلة ضغط لرفع الصوت أكثر منها أداةً لصناعة هذا الصوت، وقد آن الأوان لإعادة النظر في هذه الفرضية مع نتائج "بريكست"، فعلى الرغم من أن الفضاء الافتراضي مفتوح للنقاش والاختلاف والمعارضة، إلا أن ما حصل في استفتاء الـ "بريكست" يجعلنا نتساءل: هل أصبحنا فعلاً أمام "دكتاتورية" جديدة، هي "ديكتاتورية" المواقع الاجتماعية التي تجنح نحو الرأي الواحد؟
لا يمكن الحسم اليوم أن مساحات التعبير الافتراضية هي ما أوجدت "لحظةً استثنائية"،
ونجحت في اختبار استفتاء شعبي واقعي، متجاوزةً أصحاب نظرية التشكيك في قدرتها على الحشد والتعبئة. لكن ما حصل بعد ظهور نتائج الاستفتاء من شبه اختفاءٍ لمعسكر المؤيدين للانفصال، وعدم احتفالهم، كما كان متوقعاً بنجاحهم المستحق. وفي المقابل، استمرار الحركة المعارضة للانفصال في الفعل على أرض الواقع، كلها أمورٌ تدفع إلى الشك، بما أنه لا معطيات رقمية لدينا، بأن من حسم نتيجة هذا الاستفتاء هو العالم الافتراضي، وهو عالم غير قادر على إيجاد حركاتٍ ذات قاعدة اجتماعية واقعية حقيقية. ومن هنا، تشتت "الرأي العام" الذي أوجدته لحظة التصويت، مباشرةً بعد ظهور نتائجه، وعدم قدرته على التأثير والاستمرار، بعد أن استنفد الغرض الذي وجد من أجله.
سبق أن شاهدنا حالةً مشابهة لهذه، مع حركة "تمرّد" المصرية التي استهدفت "جمهور" المواقع الاجتماعية، واستخدمت وسائل التواصل الحديث في ترويج خطابها والتعبئة والحشد لمسيرتها. وإذا كان الكل يعرف نتيجة الحركة ومآلات أصحابها، بعدما انكشفت خلفياتها السياسية، فلا أحد يتساءل اليوم أين هو "جمهورها"؟ وفي الحقيقة، لم يكن لهذه الحركة "جمهور" حقيقي، فما نجحت فيه، وما سعت إليه هو إيجاد "لحظة استثنائية"، تمثلت في مسيرات "30 يونيو"، واتضح اليوم، مع مرور الوقت، أن الحركة استنفدت مبرّرات وجودها مباشرة بعد انتهاء تلك المسيرات.
ومع أنه لا مجال للمقارنة، ولا قياس مع وجود فوارق كثيرة، بين حركتي "تمرد" المصرية و"بريكست" البريطانية، إلا أن ما يجمع بينهما استعمالهما الجمهور الافتراضي لاختراق الواقع. وثانياً، ذوبان هذا "الجمهور" مباشرةً بعد استنفاد المهمة التي وجد من أجلها. وفي الحالتين، شهدنا اختفاء من كانوا يوجهون هذا الجمهور الافتراضي، ويسعون إلى التأثير على قراراته على أرض الواقع.
إننا أمام ظواهر جديدة في علم التواصل الحديث، وطريقة صناعة الرأي العام، والتأثير في الجماهير، ظاهرة تجمع بين ما هو افتراضي وما هو واقعي، لإيجاد لحظات استثنائية، يكون لها أثرها البالغ في الواقع. وما زالت هذه الظواهر تتطلب مزيداً من التمحيص والدرس، لاستنباط الدروس واستخلاص العبر، حتى لا يصبح العالم الافتراضي هو الذي يتحكّم ويوجه، بل ويفرض علينا اختياراته على أرض الواقع.
لمعرفة ما حصل، يجب العودة إلى لب النقاش الذي كان سائداً طوال الحملة التي سبقت الاستفتاء، وهو نقاش أطرته، وأثرت فيه، إلى حد كبير، وسائل التواصل الحديثة، فإلى أي حدٍّ ساهمت هذه الوسائل في تحوير النقاش الديمقراطي الذي ابتعد عن الوقائع، وركّز على العواطف والانطباعات الشخصية، مستعملاً، في أحيانٍ كثيرة، معطياتٍ غير صحيحة، اتضح في ما بعد أنها كانت مجرد وعودٍ كاذبة أطلقها السياسيون في معسكر الانفصال عن أوروبا، وساهمت في التأثير على إرادة المشاركين في الاستفتاء؟
ما حصل في استفتاء الـ "بريكست" كما يسمى، مازال أمراً جديداً وطارئاً على علم التواصل الحديث، وينبغي أن ننتظر، حتى يهدأ الصخب الذي رافق هذا الاستفتاء، لتنكشف الحقيقة، حقيقة ما جرى لحمل الناس على التصويت لمشروعٍ يكاد لا يجد اليوم من يدافع عنه. فإلى أي حدٍّ تم استعمال نظرية "عقلية الجماهير"، للحسم في نتائج استفتاءٍ كان موضوع استقطاب حادّ داخل المجتمع البريطاني؟ وما هو الدور الذي لعبته وسائل التواصل الحديثة، وخصوصاً المواقع الاجتماعية الكبيرة في تشكيل رأيٍ عام مؤيد للانفصال، وفرض أجندة معسكر الانفصال، لتوجيه اهتمام المشاركين في هذا الاستفتاء؟ مجموعة أسئلة يصعب الإجابة عنها هنا في عجالة. أولاً، لعدم توفر كل المعطيات المحيطة باستعمال وسائل التواصل الحديثة في التأثير على إرادة الناخبين في هذا الاستفتاء. وثانياً، لأنه ما زال يصعب الحسم في قدرة شبكات التواصل الاجتماعي على التأثير، وصناعة ما يمكن أن نسميه رأياً عاماً إلكترونياً، ومدى قدرة هذا الرأي العام على اختراق الواقع؟
الرأي الذي ظل سائداً هو أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تصنع رأياً عاماً، وإنما تعكس الرأي العام الموجود. وهناك من كان يرى فيها مجرد وسيلة ضغط لرفع الصوت أكثر منها أداةً لصناعة هذا الصوت، وقد آن الأوان لإعادة النظر في هذه الفرضية مع نتائج "بريكست"، فعلى الرغم من أن الفضاء الافتراضي مفتوح للنقاش والاختلاف والمعارضة، إلا أن ما حصل في استفتاء الـ "بريكست" يجعلنا نتساءل: هل أصبحنا فعلاً أمام "دكتاتورية" جديدة، هي "ديكتاتورية" المواقع الاجتماعية التي تجنح نحو الرأي الواحد؟
لا يمكن الحسم اليوم أن مساحات التعبير الافتراضية هي ما أوجدت "لحظةً استثنائية"،
سبق أن شاهدنا حالةً مشابهة لهذه، مع حركة "تمرّد" المصرية التي استهدفت "جمهور" المواقع الاجتماعية، واستخدمت وسائل التواصل الحديث في ترويج خطابها والتعبئة والحشد لمسيرتها. وإذا كان الكل يعرف نتيجة الحركة ومآلات أصحابها، بعدما انكشفت خلفياتها السياسية، فلا أحد يتساءل اليوم أين هو "جمهورها"؟ وفي الحقيقة، لم يكن لهذه الحركة "جمهور" حقيقي، فما نجحت فيه، وما سعت إليه هو إيجاد "لحظة استثنائية"، تمثلت في مسيرات "30 يونيو"، واتضح اليوم، مع مرور الوقت، أن الحركة استنفدت مبرّرات وجودها مباشرة بعد انتهاء تلك المسيرات.
ومع أنه لا مجال للمقارنة، ولا قياس مع وجود فوارق كثيرة، بين حركتي "تمرد" المصرية و"بريكست" البريطانية، إلا أن ما يجمع بينهما استعمالهما الجمهور الافتراضي لاختراق الواقع. وثانياً، ذوبان هذا "الجمهور" مباشرةً بعد استنفاد المهمة التي وجد من أجلها. وفي الحالتين، شهدنا اختفاء من كانوا يوجهون هذا الجمهور الافتراضي، ويسعون إلى التأثير على قراراته على أرض الواقع.
إننا أمام ظواهر جديدة في علم التواصل الحديث، وطريقة صناعة الرأي العام، والتأثير في الجماهير، ظاهرة تجمع بين ما هو افتراضي وما هو واقعي، لإيجاد لحظات استثنائية، يكون لها أثرها البالغ في الواقع. وما زالت هذه الظواهر تتطلب مزيداً من التمحيص والدرس، لاستنباط الدروس واستخلاص العبر، حتى لا يصبح العالم الافتراضي هو الذي يتحكّم ويوجه، بل ويفرض علينا اختياراته على أرض الواقع.