منجم فياليتشكا... تحفة بولندية من صخور الملح

15 أكتوبر 2018
تحوّل المنجم إلى متحف (Getty)
+ الخط -
عبْر درَج ضيق وملتوٍ، بدأت رحلة النزول نحو عالم سحيق في أعماق الأرض. هبّت نسمة هواءٍ باردة مالحة أشعرت الحضور بأنهم في عالم غير المعتاد.
حول قنوات ضيقة داخل أكبر منجم ملحي جنوب بولندا، وأحد أجمل المناجم في العالم، يستمر نزول زوار منجم "فياليتشكا" الملحي، وصولا إلى الطابق 52 في جوف الأرض. يصطف الجميع جنباً إلى جنب بين بابين ضخمين، تجنباً للضغط الهوائي، قبل أن تفتح الدليلة السياحية أحدهما، وليجد الزوار أنفسهم داخل منجم ليس كسواه من المناجم، بل عالم من السحر والفن والإبداع صنعه عمال بسطاء بالإضافة إلى فنانين محترفين.
يتجول الحضور صامتين في لحظة ذهول من جمال المكان، داخل أنفاق بعضها شبه مظلمة على عمق أكثر من 300 متر وطول ثلاثة كيلومترات، ليجدوا شواهد فريدة عن نشاط صناعي من القرن الثالث عشر وحضارة صنعها بسطاء كان هدفهم محاولة البقاء على قيد الحياة، بينما كان الملح يسمى الذهب الأبيض لغلاء قيمته في تلك الحقبة من الزمن. وكان منجم فياليتشكا الملحي ينتج ما يصل إلى طن يومياً، وهو ما كان يغطي حاجات نصف أوروبا آنذاك، ليصبح الموقع الأغنى في القارة الأوروبية.
قالت الباحثة في منجم "فياليتشكا"، أنيثيا سريبينسيكفيا، لـ "العربي الجديد": "إن هذا الموقع يستقبل أكثر من مليوني زائر سنويا. هواؤه نقي مناسب لمرضى الربو والحساسية، وأٌدرِج في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1978م، لما يحمله من تراث نادر، وهو من أقدم مناجم الملح".
وتستمر الرحلة نزولا بين صخور ملحية بنيّة وأخرى مخططة بالأبيض والأسود، بدرجات مختلفة وبتشكيلات أشبه بصخر الغرانيت غير المصقول، وأخرى على شكل بلّورات كريستاليّة ذات لون رمادي. وعبْر درج ضيق وعميق يفضي وبشكل مفاجئ إلى أكبر كاتدرائية ملحية تحت أرض بولندا مساحتها 1500 متر مربع، زُينت بتماثيل تاريخيّة ومجسّمات أسطورية منحوتة من الصخر الملحي في الماضي البعيد، ومنها نسخة طبق الأصل من لوحة "العشاء الأخير" لدافنشي، ولوحة الصًلب، إضافةً إلى مجسّمات ومنحوتات تم تصميمها من قبَل فنانين مُعاصرين، وثريّات صممت من الصخر الملحي المُعاد تشكيله ومزجه مع مركبات أخرى، للحصول على مظهر مشابه للزجاج النقي.
هذا العالم العميق تحت الأرض لا يخلو من الأساطير والخيال. فبعد أن يستمر الجميع في النزول، يحلّون أمام مجسم لمسرح نحتت عليه قطعة مسرحية فنية خلابة تروي قصة من نسْج الخيال عن "الأميرة كينغا" أو "قديسة بولندا كينغا". هي أسطورة مرتبطة بمنجم فياليتشكا، وفيها تشكلت الأميرة كينغا واقفة، بينما يركع أمير، قيل إنه الأمير بوليسلاوو، تحت قدميها. ويحكى أن الأميرة كينغا، كما روت الدليلة السياحية، وهي من طبقة الأشراف في هنغاريا، كانت فائقة الذكاء وعاشقة المغامرات والسلطة، وأيضا عاشقة أمير كراكوف البولندي أو "الأمير بوليسلاوو". كما يحكى أنها أَرسلت إليه لطلب يدها للزواج، وكجزء من مهرها طلبت من والدها كتلةً من الملح، ونظراً لأن الملح باهظ الثمن حينها في أوروبا، أخذها والدها إلى منجم "مارامورس" الملحي في بيلاروسيا، وهناك ألقَت خاتم خطوبتها الخاص بأمير كراكوف في أحد مهاوي المنجم قبل مغادرتها إلى بولندا لمقابلة الأمير. وعند وصولها إلى بولندا، كما تقول الأسطورة، طلبت من عمّال المنجم أن يحفروا عميقاً إلى أن وجدوا كتلة من الملح، وعند كسرها عثروا على خاتَم الأميرة في داخل الكتلة الملحية. يُحكى أنها باتت بذلك القديسة الحامية والمرشدة لعمّال المناجم في أرجاء بولندا.
لكن جمال الخيال والواقع لهذا المنجم لم يكن محملاً بالفرح لمن عملوا فيه إبان عصر الظلام، إذ كان يموت الكثير منهم في داخله بسبب الظروف القاسية أثناء عملهم تحت الأرض، أو بسبب حوادث سقوط الآلات، أو الاصطدام بالمهاوي الخطرة وغير الآمنة. وشهد المنجم معارك عنيفة للسيطرة عليه، كما تقول عشرات الجثث التي نُبشت في مقبرة إلى جانبه. ولشرعنة موت العمال، ابتكر رجال الدين بناء مراكز للعبادة ومزارات قرب مكان عمل العمال، لحثهم على الصلاة والتقرب إلى الله قبل بدء العمل.
في ركن آخر من المنجم، ينتصب مجسّم لحصان يروي كيف كان هذا الحيوان الرفيق الوحيد للعامل أثناء غربته تحت أرض وطنه. جلبه البولنديون قديما، مع ازدياد الإنتاج، للاستعانة به لنقل الصخور الملحية إلى الأعلى أو الأسفل، لكنه الآخر لم ير النور أبدا خارج المنجم بعد دخوله.
المساهمون