18 سبتمبر 2024
مكتبة الجاحظ ومثقف اليوم
سمع أغلبنا بالقصّة الشائعة في الصحافة وقصص الأطفال عن موت الأديب والمتكلّم العربي، عمرو بن بحر الجاحظ، وخلاصتها أن الجاحظ المصاب بالفالج (الشلل النصفي) والنقرس في شيخوخته، وقد جاوز التسعين، سقطت عليه مجلدات من مكتبته العامرة فقتلته.
الراجح أن هذه القصّة ملفّقة؛ فلم تذكرها المراجع القديمة للسير والتراجم، مثل "وفيّات الأعيان" و"معجم الأدباء"، عند عرضها سيرة الجاحظ، في حين ذكرتها موسوعة حديثة، "الأعلام" لخير الدين الزركلي. الراجح كذلك أنها أضيفت إلى سيرته لتعطيها بُعدًا قدريًا، أو تصطنع لها معنىً طريفًا عند من يعولون على المفارقات، في إقناع أنفسهم والآخرين بأن ثمة معنىً للوجود: العقل الفذ المشتغل بالفكر والأدب وعلم الكلام قتلته كتبه العزيزة في نهاية المطاف!
على الرغم من رجحان تلفيق هذه الرواية، تبقى ذات أهميّة في رمزيّتها، والتي اختُزِلَت في بُعد المفارقة فحسب، وظلت حبيسة المقالات السريعة، ولم يستفد منها (بحسب علمي) المثقفون المُحدَثون، باعتبارها مدخلا رمزيا لمناقشة شؤون الراهن، وظلت مقاتل ونهايات وضّاح اليمن وبشار بن برد وابن المقفع والحلّاج، ومدائح شعراء، مثل المتنبي وأبو تمام والبحتري، في الخلفاء والسلاطين، تسيطر على النقاش الثقافي، لأنها، في الأغلب، مدخل لمناقشة موضوع عزيز على قلب التيّار الثقافوي العربي، وهو "المثقف والسلطة"، بغض النظر الآن عن رأينا بإنتاج التيار الثقافوي بخصوص هذه المسألة، والذي أغلبه غير مفيد؛ فهو لا تاريخي واستشراقي، ولا يُفَسّر الكثير. في حين وضع مثقفون عرب قليلون مسألة المثقف العربي والسلطة في سياق سوسيولوجي وتاريخي وطبقي مركب، ولكن.. ماذا عن علاقة المثقف بنفسه؟ ماذا عن المهازل المُرّة التي نراها في السلوك الاجتماعي والنفسي لقطاع من المثقفين، كما يظهر في وسائل التواصل الاجتماعي والندوات واللقاءات المتلفزة منذ اندلاع ثورات عام 2011؟
في الموضوع جوانب كثيرة، مثل علاقة المثقف بالمجتمع، وموقعه الطبقي منه، علاوة على التحليل السايكولوجي الذي يحتاج مختصّين ليتحدثوا فيه. وما يهم هنا هو الإشارة إلى علاقة المثقف المنشغل في المجال العام بالعُقَد الشخصيّة والجمعية. وهنا الأهمية الرمزية للنهاية الجاحظيّة.
قد يعتقد القارئ أن المقصود "معاناة الوعي" والآلام الناتجة عن المعرفة والذكاء، ولكن هذه الأفكار، على صحتها، صارت كليشيهات، وابتذلت من كثرة ترديد الناس لها منذ قديم الزمان (عربيًا منذ قَبْريات عمرو بن العاص وقصائد المتنبي، وصولًا إلى رباعيات صلاح جاهين). هذا بالإضافة إلى أن هذه "المعاناة" المبالغ في توسيع حدودها أضحت أداةً نفسيّة وخطابيّة جاهزة يبرّر بها كثيرون عدوانيّتهم ولا أخلاقيتهم إزاء الآخرين.
يعاني الإنسان الحديث ضغوطًا اجتماعيّة، وتتعاوره عقد وأزمات، والإنسان العربي، في الوقت الراهن، يُسحق وهو يعايش انهيار المجتمعات وتفريخ المليشيات، وتفكك الدولة العربيّة و/أو عنفها السادي الذي يكاد يُفقد الأشياء معناها. في هذا السياق، يمتاز المثقف العربي بأمر إضافي فوق ما سبق، هو أن اشتغاله بالشأن العام، واطلاعه المعرفي، وموقعه من السلطة والمجتمع، تبني في داخله "مكتبة الجاحظ" الخطرة التي قد تنهار عليه، لتشوِّهَهُ نفسيًا فوق تشوُّهِهِ المفهوم، إنسانا في سياق غير إنساني.
يعي المثقف الذكي عُقَدَه ومشكلاته النفسيّة، ليس باستخدام معارفه فحسب، بل وعبر مراقبة تفاعله في المجال العام، لكن خطوته "القاتلة" هي توظيف معارفه ومعارك الشأن العام في "تبرير" هذه العقد، بل وعرضها وتحويلها إلى شيء إيجابي، إما من باب الحقّ وتقرير التميّز، أو من باب الشفقة على الذات وعقدة الاضطهاد. حينها تتعفّن العقد النفسيّة، ونرى ترجمتها المروّعة في السلوك اليومي، وبفخر من صاحبها: يصبح الغرورُ الغبي، وجنون العظمة الفارغ "ثقةً بالنفس"، والشعبويّةُ والطائفية والجهويّة التي تتملق أحط النزعات الاجتماعيّة لكسب مديح قطاعاتٍ في المجتمع، وكسب ود إعلام وصحف أنظمة سياسية، "تعبيرًا عن الناس"، وشتم المجتمع وإطلاق الأحكام القطعية غير العلميّة عليه "تمرّدًا وشجاعةً"، والبذاءة وتحقير الأنداد والكذب في النقاشات العامة "صراحةً" و"تعريفًا بمقام كل شخص".. وهلم جرا.
تكنولوجيا الاتصال وتغوّل الدولة الحديثة أوقعتا الإنسان المعاصر في تناقض مروّع؛ ففي حين يتسيّد الخطابُ الليبرالي بشأن الحيّز الخاص والفردانيّة فضاءَ النُّخَب والمؤسسات التربويّة، أصبح الإنسان مكشوفًا ومخترقًا من الدولة و"الآخرين" بشكل غير مسبوق وباضطراد. ووسائل التواصل الاجتماعي دمّرت الحدود المهمة بين الخاص والعام، بعد أن كان هذا التداخل بينهما مقصورًا، بدرجة رئيسيّة، على نجوم الغناء والسينما. وهكذا أصبحت "يوميّات" المثقف تحت نظر القرّاء، وكُسِرَت وسائل الاحتكاك التقليديّة بين الكاتب والقارئ، وهذه ليست أمورًا جيدة على طول الخط. وأصبح المثقفون تحت ضغط جديد، وهو الحاجة المُلحّة إلى الاهتمام والتقدير المباشر والقابل للقياس بالأرقام. وتدفع هذه الحاجة ناسا كثيرين (من المثقفين وغيرهم) إلى سلوكيات وتعبيرات غير موفّقة، كانت فيما مضى محصورة في الحيّز الخاص، أو في حيّز مكاني ضيّق في سياق اليوميات (على هامش الندوات والمحاضرات والاحتفالات)، لكنها اليوم أضحت تملأ العالم الاجتماعي الافتراضي.
ليس الاشتغال بالشأن العام من موقع المثقف ذا فائدة على المستوى الفردي، إن لم تساعده كإنسان على مواجهة ذاته، وتجاوز (أو على الأقل تقبُّل) عُقده وأزماته النفسيّة، أما اكتفاؤه بتصدير المشكل الداخلي إلى المجال العام في ثنايا النقاش السياسي، فربما لا يغيّر من الشكل العام للفوائد والمشكلات المعهودة في النشاط العام من موقع المثقف. ولكن عندئذ، وعلى المدى الطويل، ليست الثقافة والمعرفة وقضايا المجال العام إلّا مكتبةً جاحظيّة تنهار يوميًا على صاحبها المنكوب بذاته، لتزيد من تعفّن جراحه، وتدهور حالته، ولتقضي على إمكانية تقدّمه الأخلاقي في نهاية الأمر.
الراجح أن هذه القصّة ملفّقة؛ فلم تذكرها المراجع القديمة للسير والتراجم، مثل "وفيّات الأعيان" و"معجم الأدباء"، عند عرضها سيرة الجاحظ، في حين ذكرتها موسوعة حديثة، "الأعلام" لخير الدين الزركلي. الراجح كذلك أنها أضيفت إلى سيرته لتعطيها بُعدًا قدريًا، أو تصطنع لها معنىً طريفًا عند من يعولون على المفارقات، في إقناع أنفسهم والآخرين بأن ثمة معنىً للوجود: العقل الفذ المشتغل بالفكر والأدب وعلم الكلام قتلته كتبه العزيزة في نهاية المطاف!
على الرغم من رجحان تلفيق هذه الرواية، تبقى ذات أهميّة في رمزيّتها، والتي اختُزِلَت في بُعد المفارقة فحسب، وظلت حبيسة المقالات السريعة، ولم يستفد منها (بحسب علمي) المثقفون المُحدَثون، باعتبارها مدخلا رمزيا لمناقشة شؤون الراهن، وظلت مقاتل ونهايات وضّاح اليمن وبشار بن برد وابن المقفع والحلّاج، ومدائح شعراء، مثل المتنبي وأبو تمام والبحتري، في الخلفاء والسلاطين، تسيطر على النقاش الثقافي، لأنها، في الأغلب، مدخل لمناقشة موضوع عزيز على قلب التيّار الثقافوي العربي، وهو "المثقف والسلطة"، بغض النظر الآن عن رأينا بإنتاج التيار الثقافوي بخصوص هذه المسألة، والذي أغلبه غير مفيد؛ فهو لا تاريخي واستشراقي، ولا يُفَسّر الكثير. في حين وضع مثقفون عرب قليلون مسألة المثقف العربي والسلطة في سياق سوسيولوجي وتاريخي وطبقي مركب، ولكن.. ماذا عن علاقة المثقف بنفسه؟ ماذا عن المهازل المُرّة التي نراها في السلوك الاجتماعي والنفسي لقطاع من المثقفين، كما يظهر في وسائل التواصل الاجتماعي والندوات واللقاءات المتلفزة منذ اندلاع ثورات عام 2011؟
في الموضوع جوانب كثيرة، مثل علاقة المثقف بالمجتمع، وموقعه الطبقي منه، علاوة على التحليل السايكولوجي الذي يحتاج مختصّين ليتحدثوا فيه. وما يهم هنا هو الإشارة إلى علاقة المثقف المنشغل في المجال العام بالعُقَد الشخصيّة والجمعية. وهنا الأهمية الرمزية للنهاية الجاحظيّة.
قد يعتقد القارئ أن المقصود "معاناة الوعي" والآلام الناتجة عن المعرفة والذكاء، ولكن هذه الأفكار، على صحتها، صارت كليشيهات، وابتذلت من كثرة ترديد الناس لها منذ قديم الزمان (عربيًا منذ قَبْريات عمرو بن العاص وقصائد المتنبي، وصولًا إلى رباعيات صلاح جاهين). هذا بالإضافة إلى أن هذه "المعاناة" المبالغ في توسيع حدودها أضحت أداةً نفسيّة وخطابيّة جاهزة يبرّر بها كثيرون عدوانيّتهم ولا أخلاقيتهم إزاء الآخرين.
يعاني الإنسان الحديث ضغوطًا اجتماعيّة، وتتعاوره عقد وأزمات، والإنسان العربي، في الوقت الراهن، يُسحق وهو يعايش انهيار المجتمعات وتفريخ المليشيات، وتفكك الدولة العربيّة و/أو عنفها السادي الذي يكاد يُفقد الأشياء معناها. في هذا السياق، يمتاز المثقف العربي بأمر إضافي فوق ما سبق، هو أن اشتغاله بالشأن العام، واطلاعه المعرفي، وموقعه من السلطة والمجتمع، تبني في داخله "مكتبة الجاحظ" الخطرة التي قد تنهار عليه، لتشوِّهَهُ نفسيًا فوق تشوُّهِهِ المفهوم، إنسانا في سياق غير إنساني.
يعي المثقف الذكي عُقَدَه ومشكلاته النفسيّة، ليس باستخدام معارفه فحسب، بل وعبر مراقبة تفاعله في المجال العام، لكن خطوته "القاتلة" هي توظيف معارفه ومعارك الشأن العام في "تبرير" هذه العقد، بل وعرضها وتحويلها إلى شيء إيجابي، إما من باب الحقّ وتقرير التميّز، أو من باب الشفقة على الذات وعقدة الاضطهاد. حينها تتعفّن العقد النفسيّة، ونرى ترجمتها المروّعة في السلوك اليومي، وبفخر من صاحبها: يصبح الغرورُ الغبي، وجنون العظمة الفارغ "ثقةً بالنفس"، والشعبويّةُ والطائفية والجهويّة التي تتملق أحط النزعات الاجتماعيّة لكسب مديح قطاعاتٍ في المجتمع، وكسب ود إعلام وصحف أنظمة سياسية، "تعبيرًا عن الناس"، وشتم المجتمع وإطلاق الأحكام القطعية غير العلميّة عليه "تمرّدًا وشجاعةً"، والبذاءة وتحقير الأنداد والكذب في النقاشات العامة "صراحةً" و"تعريفًا بمقام كل شخص".. وهلم جرا.
تكنولوجيا الاتصال وتغوّل الدولة الحديثة أوقعتا الإنسان المعاصر في تناقض مروّع؛ ففي حين يتسيّد الخطابُ الليبرالي بشأن الحيّز الخاص والفردانيّة فضاءَ النُّخَب والمؤسسات التربويّة، أصبح الإنسان مكشوفًا ومخترقًا من الدولة و"الآخرين" بشكل غير مسبوق وباضطراد. ووسائل التواصل الاجتماعي دمّرت الحدود المهمة بين الخاص والعام، بعد أن كان هذا التداخل بينهما مقصورًا، بدرجة رئيسيّة، على نجوم الغناء والسينما. وهكذا أصبحت "يوميّات" المثقف تحت نظر القرّاء، وكُسِرَت وسائل الاحتكاك التقليديّة بين الكاتب والقارئ، وهذه ليست أمورًا جيدة على طول الخط. وأصبح المثقفون تحت ضغط جديد، وهو الحاجة المُلحّة إلى الاهتمام والتقدير المباشر والقابل للقياس بالأرقام. وتدفع هذه الحاجة ناسا كثيرين (من المثقفين وغيرهم) إلى سلوكيات وتعبيرات غير موفّقة، كانت فيما مضى محصورة في الحيّز الخاص، أو في حيّز مكاني ضيّق في سياق اليوميات (على هامش الندوات والمحاضرات والاحتفالات)، لكنها اليوم أضحت تملأ العالم الاجتماعي الافتراضي.
ليس الاشتغال بالشأن العام من موقع المثقف ذا فائدة على المستوى الفردي، إن لم تساعده كإنسان على مواجهة ذاته، وتجاوز (أو على الأقل تقبُّل) عُقده وأزماته النفسيّة، أما اكتفاؤه بتصدير المشكل الداخلي إلى المجال العام في ثنايا النقاش السياسي، فربما لا يغيّر من الشكل العام للفوائد والمشكلات المعهودة في النشاط العام من موقع المثقف. ولكن عندئذ، وعلى المدى الطويل، ليست الثقافة والمعرفة وقضايا المجال العام إلّا مكتبةً جاحظيّة تنهار يوميًا على صاحبها المنكوب بذاته، لتزيد من تعفّن جراحه، وتدهور حالته، ولتقضي على إمكانية تقدّمه الأخلاقي في نهاية الأمر.