28 أكتوبر 2024
مقتل خاشقجي.. الانحطاط الإجرامي وتوابعه
اختفى الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، بعد أن دخل قنصلية بلاده في إسطنبول في 2 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري. وبعد عشرة أيام، وتحت ضغوط متعدّدة الجهات والأشكال، أبرزها تسريبات صحافية، وإعلان تركيا امتلاكها أدلةً على مقتل خاشقجي، اعترفت السعودية بالجريمة، لكي تغلق ما أثارته من غضبٍ تجاوز ما تصورته أيادي القتلة. لكن الجريمة تفتح ملفات عديدة، تتعلق بطبيعة النظم الحاكمة، ونمط العقل السياسي العربي، وانحطاط النخب قبل الدول. وتفتح أيضا ملفات تتعلق بطرق إدارة المملكة صراعاتها السياسية محليا وإقليميا ودوليا، وفى الوقت نفسه، تظهر القضية الارتباك والانقسام في صفوف الحكم السعودي تجاه طرق تصفية المعارضين أو حصارهم، بل وتوضح الانقسام والفصام في البنية الثقافية لحكام المملكة.
تحتاج قضية مقتل خاشقجي تحليلا يتجاوز أدوات السياسة التقليدية، باستخدام أدوات تحليلية أنثروبولوجية متعدّدة الأوجه، فبشاعة الجريمة تفتح أبوابا لتحليل وتفسير علاقات الارتباط ما بين بنية الحكم في السعودية (وغيرها) بالموروث القبلي، والرواسب الثقافية لمرحلة الجاهلية، وما تلاها من فترةٍ تاريخيةٍ امتزجت فيها النصوص والأعراف بالسطوة والنزوع للسيطرة، ووظّفت أدوات العنف الرمزي والمادي لإحكام السيطرة على العقول والأجساد، فالجريمة هنا ليست وحسب نتاج فشلٍ في إدارة ملف المختلفين سياسيا، لكنها مثالٌ على عنف الجريمة السياسية وانحطاطها. وفي حال إثبات أن جثة خاشقجي قد قطعت بالمناشير وقسمت على حقائب، فإن الجريمة تصيب بالجزع، وتتنافى مع أبسط الأفكار الإنسانية، وتتعارض حتى مع البنية الأولى للدولة، وحتى بدايات التنظيم الاجتماعي وأسسه التي تحكم علاقات الحكام بالمحكومين في عصور ما قبل الدول الحديثة، أو، بلغة أنثروسياسية، عصور حكم القبائل التي مثلت دولا، على حد تعبير إيفانز بريتشارد.
إننا أمام تصرفات لمجموعات تمثل قبيلةً لم تصل إلى حد بسيط من تنظيم علاقاتها وإدارة الصراع فيها. ويتم التأكيد هنا على ذلك، لأن الجريمة، إذا ثبتت بهذا الشكل، تنتمي إلى عصور البربرية والانحطاط والوحشية التي تسبق قواعد التنظيم القبلي التي عرفها العرب، فبدون حروبٍ تسمّى هذه الواقعة غدرا وجبنا، لأنها تمثيل بالجسد في غير حرب، و تعيدنا الجريمة إلى حالة القبلية في شكلها الأولى، والتي تسعى فيها السلطة إلى إخضاع أعضائها قسريا لسلطة الولي بالقتل على الإشهاد. وهنا تتجلى عقلية المصاب بالفصام المجرم المتخلف عن حداثة عصرنا، فهو يتعامل مع الخارجين عن سلطة قبيلته بوصفهم فرائس تُصطاد وتذبح، وكأننا في عصر قنص البشر، قبل أن يعرف الإنسان اصطياد الحيوانات.
إذا صحّت رواية تقطيع جسد خاشقجي، نكون أمام صدمة تستدعي وقفة عن طبيعة بعض النظم الحاكمة في الوطن العربي، كيف تفكّر، وما مستقبلها، وما الاختلاف بينها وبين تنظيمات الإرهاب التى تتخذ من العنف الدينى رايةً لها. وغنيٌّ عن القول إن جريمة كهذه تزيد من بشاعة نظم الاستبداد، لأنها لا تخجل من القتل العلني والتمثيل بالجثث بشكل ثأري ووحشي، ويتضح منها أيضا أن هناك رغبة في إيصال رسائل أن الانحطاط الإجرامي وسيلتها لإخضاع المخالفين، وإن تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف شريعتها في الحكم.
ليس الموضوع هنا أن جمال خاشقجي انتمى إلى صفوف المعارضين الإصلاحيين، ومن قبل كان قريبا من دوائر اتخاذ القرار بالسعودية، ولكن علينا الوصول إلى حقيقة أن كل النظم الاستبدادية لا ترى فرقا بين التعامل مع معارضين إصلاحيين وجذريين، فلديها قانون وقاعدة، كل معارضٍ للسلطة لا بد من استهدافه، لأنه يستهدفها، وبحكم أن المعارضة ملة واحدة، كالكفر تماما. هكذا يجمع المستبدّون بين فكر ديني أداة للقمع والسيطرة وبين الاستبداد في أكثر صوره وحشية وبشاعة، وهي البشاعة نفسها التي استدعت اهتماما عالميا لم يتصوّره القتلة، صحيح أن أصداء الخلاف الخليجي ترك آثاره على طريقة إثارة الجريمة ومناقشتها إعلاميا، لكن هذا لم ينف الجريمة، ولا يصبّ إلا في صالح من قال بوقوعها، وبغض النظر عن مساحات التناقض السياسى العربي، فإن قضية المذبحة العلنية كانت ستسود، ويتعرّف على وقائعها مئات الملايين في العالم كما حدث فعليا.
يمكن أيضا التعليق على زاوية المشهد الإعلامي، وما حاولت توابع السعودية أن تروجه من قصص مكذوبة، وتبريرات مفضوحة، وهي فى جانب منها توضح مأساة واقعنا العربي الذي يكذّب فيه القاتل قتل القتيل، بل يمشي في جنازته ويعزّي أهله. حاولت وسائل إعلام السعودية في مصر أن تنفي الجريمة أولا، ثم أخذت تبرّرها، بل اتهمت أصواتٌ مصرية تركيا وقطر بارتكاب الجريمة لتوريط السعودية، ولمّح بعضها بوجود تخطيط أميركى تركي للجريمة، وذلك بعد إعلان الرياض وقوع الجريمة، وما ترتب عليه من محاولات تبريرها، وإن الانزعاج الدولي من مقتل خاشقجى مبالغ فيه وغير مفهوم. وهذا بالطبع قياسا على أفكارهم التي تعتبر مقتل أي مواطن عاديا، خصوصا إذ كان هذا المواطن معارضا، فيتحول من الاعتياد إلى الواجب.
ما زال الإعلام الخاص والرسمي يطالب بانتظار نتائج التحقيقات، قياسا على قاعدة انتظروا أيها المشاهدون النتائج، ولا تتحدّثوا فى الموضوع، بينما آلية التبرير مستمرة ممن يطالبون المواطنين بالتفرّج حتى تظهر النتائج. كل المتسعودين يقولون إن الجريمة تم تسييسها، وكأن خاشقجي قتل في مشاجرة في سوق مزدحم باللصوص، وليس بوصفه مواطنا سعوديا معارضا قتل في قنصلية بلده. وفي السياق نفسه نتجت سردية مكرّرة، تم تكييفها للحدث، واستخدمها الإعلام المصري، وهي التلميح بانتماء خاشقجي للإخوان المسلمين، ولذلك هو خائن لوطنه وعدو للمصريين، وقتله واجبٌ انتصارا للوطنية، خصوصا أنه ينتمى لأكثر من جهاز مخابرات. وهنا تتضافر سردية المعارضين الخونة، عملاء جهاز المخابرات الأميركي، وبحكم أن المخالفين لسلطة الولي الحاكم أو الجنرال، أو الملك أو الأمير، تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما يعتقد "داعش" والمتشبهون به، والمتبعون أفكاره في ثوبهم الحداثي. وبذلك يتم إهدار دم خاشقجي، إنه المنطق الذي يستخدمه الاستبداد ضد المعارضين لحكمه، أين كانت أفكارهم.
قبل اعتراف السعودية بالجريمة، كانت الاستراتيجية الأساسية إنكارها وردّها إلى التآمر الدولي ضد السعودية. وحين اعترفت بالمذبحة، تم اعتبارها جريمة قتل عادية، بل حيّا بعض الذين كانوا قد سارعوا إلى النفي اعتراف المملكة بالجريمة وسعيها إلى التحقيق. هكذا تأرجح بندول التابعين في الإعلام المصري، وتنوّعت خطاباتهم مع تطور أحداث الجريمة. لا خجلا هنا يلمح من هؤلاء كونهم مهرّجين، يتحرّكون بثقةٍ يحسدون عليها، وفي قرارة أنفسهم أن مساندة
السعودية والنظام أمر واجب، خصوصا وأن مصالح كثيرين منهم ترتبط بتدفق المال السعودي، ومساندتهم لها تعني استمرار وجوده في الصحف وشاشات التلفزيون، بعد أن سرح أغلب الإعلاميين بأوامر سلطوية.
سعوديا، تتضح أزمة الحكم والبنية الفكرية التي تستند إليها، فهناك مجموعات مصالح لا تستطيع مواجهة تحدياتٍ كبيرة سوى بالتحصّن بالماضي، بكل إرثه المتخلف والرجعي. وهذا سينشئ نكسات متكرّرة. كما أوضحت الجريمة، وما تلاها من تصريحات، ضعف بنية الحكم ومجموعة اتخاذ القرار، خصوصا مع تصاعد نفوذ ولي العهد محمد بن سلمان والمتحلقين حوله، في مؤتمر مستقبل الاستثمار وعلى خلفية الجريمة. ذهب إلى إعلان الإنجازات، ولمّح إلى إعادة الحسابات فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية، مؤكّدا على التعاون التركي السعودي في جريمة خاشقجي. وأتبع التعاون بحجم الاستثمارات السعودية في تركيا.
يتّضح من جريمة قتل جمال خاشقجي أننا لسنا أمام إخفاق سلطوي في التخلص من معارض إصلاحي، بقدر ما أننا أمام أزمة نظام شاملة، يتحصّن فيها النظام السعودي بالماضي، وأفكاره وأدواته في إخضاع المواطنين، حتى وإن كان بالقتل والسلخ. وستظل هذه الواقعة البشعة نقطة فارقة في تاريخ نظام الحكم السعودي. وعلى الرغم من أن هناك سوابق قريبة منها إلا أن الوقت، والمجتمع السعودي بل والعالم ليس شبيها بعصور سابقة. وستظل صورة الجريمة نقطة فارقة لا في وعي السعوديين وحسب، ولكن كل من تابع كوارث نظم استبدادية تحكم وتنهب الثروات وتبدّدها. ولذلك فإن توابع المقتلة هذه ربما تتسع أبعادها مستقبلا أكثر مما يتخيّله بعضهم، حتى وإن أغلقت ملفات القضية.
تحتاج قضية مقتل خاشقجي تحليلا يتجاوز أدوات السياسة التقليدية، باستخدام أدوات تحليلية أنثروبولوجية متعدّدة الأوجه، فبشاعة الجريمة تفتح أبوابا لتحليل وتفسير علاقات الارتباط ما بين بنية الحكم في السعودية (وغيرها) بالموروث القبلي، والرواسب الثقافية لمرحلة الجاهلية، وما تلاها من فترةٍ تاريخيةٍ امتزجت فيها النصوص والأعراف بالسطوة والنزوع للسيطرة، ووظّفت أدوات العنف الرمزي والمادي لإحكام السيطرة على العقول والأجساد، فالجريمة هنا ليست وحسب نتاج فشلٍ في إدارة ملف المختلفين سياسيا، لكنها مثالٌ على عنف الجريمة السياسية وانحطاطها. وفي حال إثبات أن جثة خاشقجي قد قطعت بالمناشير وقسمت على حقائب، فإن الجريمة تصيب بالجزع، وتتنافى مع أبسط الأفكار الإنسانية، وتتعارض حتى مع البنية الأولى للدولة، وحتى بدايات التنظيم الاجتماعي وأسسه التي تحكم علاقات الحكام بالمحكومين في عصور ما قبل الدول الحديثة، أو، بلغة أنثروسياسية، عصور حكم القبائل التي مثلت دولا، على حد تعبير إيفانز بريتشارد.
إننا أمام تصرفات لمجموعات تمثل قبيلةً لم تصل إلى حد بسيط من تنظيم علاقاتها وإدارة الصراع فيها. ويتم التأكيد هنا على ذلك، لأن الجريمة، إذا ثبتت بهذا الشكل، تنتمي إلى عصور البربرية والانحطاط والوحشية التي تسبق قواعد التنظيم القبلي التي عرفها العرب، فبدون حروبٍ تسمّى هذه الواقعة غدرا وجبنا، لأنها تمثيل بالجسد في غير حرب، و تعيدنا الجريمة إلى حالة القبلية في شكلها الأولى، والتي تسعى فيها السلطة إلى إخضاع أعضائها قسريا لسلطة الولي بالقتل على الإشهاد. وهنا تتجلى عقلية المصاب بالفصام المجرم المتخلف عن حداثة عصرنا، فهو يتعامل مع الخارجين عن سلطة قبيلته بوصفهم فرائس تُصطاد وتذبح، وكأننا في عصر قنص البشر، قبل أن يعرف الإنسان اصطياد الحيوانات.
إذا صحّت رواية تقطيع جسد خاشقجي، نكون أمام صدمة تستدعي وقفة عن طبيعة بعض النظم الحاكمة في الوطن العربي، كيف تفكّر، وما مستقبلها، وما الاختلاف بينها وبين تنظيمات الإرهاب التى تتخذ من العنف الدينى رايةً لها. وغنيٌّ عن القول إن جريمة كهذه تزيد من بشاعة نظم الاستبداد، لأنها لا تخجل من القتل العلني والتمثيل بالجثث بشكل ثأري ووحشي، ويتضح منها أيضا أن هناك رغبة في إيصال رسائل أن الانحطاط الإجرامي وسيلتها لإخضاع المخالفين، وإن تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف شريعتها في الحكم.
ليس الموضوع هنا أن جمال خاشقجي انتمى إلى صفوف المعارضين الإصلاحيين، ومن قبل كان قريبا من دوائر اتخاذ القرار بالسعودية، ولكن علينا الوصول إلى حقيقة أن كل النظم الاستبدادية لا ترى فرقا بين التعامل مع معارضين إصلاحيين وجذريين، فلديها قانون وقاعدة، كل معارضٍ للسلطة لا بد من استهدافه، لأنه يستهدفها، وبحكم أن المعارضة ملة واحدة، كالكفر تماما. هكذا يجمع المستبدّون بين فكر ديني أداة للقمع والسيطرة وبين الاستبداد في أكثر صوره وحشية وبشاعة، وهي البشاعة نفسها التي استدعت اهتماما عالميا لم يتصوّره القتلة، صحيح أن أصداء الخلاف الخليجي ترك آثاره على طريقة إثارة الجريمة ومناقشتها إعلاميا، لكن هذا لم ينف الجريمة، ولا يصبّ إلا في صالح من قال بوقوعها، وبغض النظر عن مساحات التناقض السياسى العربي، فإن قضية المذبحة العلنية كانت ستسود، ويتعرّف على وقائعها مئات الملايين في العالم كما حدث فعليا.
يمكن أيضا التعليق على زاوية المشهد الإعلامي، وما حاولت توابع السعودية أن تروجه من قصص مكذوبة، وتبريرات مفضوحة، وهي فى جانب منها توضح مأساة واقعنا العربي الذي يكذّب فيه القاتل قتل القتيل، بل يمشي في جنازته ويعزّي أهله. حاولت وسائل إعلام السعودية في مصر أن تنفي الجريمة أولا، ثم أخذت تبرّرها، بل اتهمت أصواتٌ مصرية تركيا وقطر بارتكاب الجريمة لتوريط السعودية، ولمّح بعضها بوجود تخطيط أميركى تركي للجريمة، وذلك بعد إعلان الرياض وقوع الجريمة، وما ترتب عليه من محاولات تبريرها، وإن الانزعاج الدولي من مقتل خاشقجى مبالغ فيه وغير مفهوم. وهذا بالطبع قياسا على أفكارهم التي تعتبر مقتل أي مواطن عاديا، خصوصا إذ كان هذا المواطن معارضا، فيتحول من الاعتياد إلى الواجب.
ما زال الإعلام الخاص والرسمي يطالب بانتظار نتائج التحقيقات، قياسا على قاعدة انتظروا أيها المشاهدون النتائج، ولا تتحدّثوا فى الموضوع، بينما آلية التبرير مستمرة ممن يطالبون المواطنين بالتفرّج حتى تظهر النتائج. كل المتسعودين يقولون إن الجريمة تم تسييسها، وكأن خاشقجي قتل في مشاجرة في سوق مزدحم باللصوص، وليس بوصفه مواطنا سعوديا معارضا قتل في قنصلية بلده. وفي السياق نفسه نتجت سردية مكرّرة، تم تكييفها للحدث، واستخدمها الإعلام المصري، وهي التلميح بانتماء خاشقجي للإخوان المسلمين، ولذلك هو خائن لوطنه وعدو للمصريين، وقتله واجبٌ انتصارا للوطنية، خصوصا أنه ينتمى لأكثر من جهاز مخابرات. وهنا تتضافر سردية المعارضين الخونة، عملاء جهاز المخابرات الأميركي، وبحكم أن المخالفين لسلطة الولي الحاكم أو الجنرال، أو الملك أو الأمير، تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما يعتقد "داعش" والمتشبهون به، والمتبعون أفكاره في ثوبهم الحداثي. وبذلك يتم إهدار دم خاشقجي، إنه المنطق الذي يستخدمه الاستبداد ضد المعارضين لحكمه، أين كانت أفكارهم.
قبل اعتراف السعودية بالجريمة، كانت الاستراتيجية الأساسية إنكارها وردّها إلى التآمر الدولي ضد السعودية. وحين اعترفت بالمذبحة، تم اعتبارها جريمة قتل عادية، بل حيّا بعض الذين كانوا قد سارعوا إلى النفي اعتراف المملكة بالجريمة وسعيها إلى التحقيق. هكذا تأرجح بندول التابعين في الإعلام المصري، وتنوّعت خطاباتهم مع تطور أحداث الجريمة. لا خجلا هنا يلمح من هؤلاء كونهم مهرّجين، يتحرّكون بثقةٍ يحسدون عليها، وفي قرارة أنفسهم أن مساندة
سعوديا، تتضح أزمة الحكم والبنية الفكرية التي تستند إليها، فهناك مجموعات مصالح لا تستطيع مواجهة تحدياتٍ كبيرة سوى بالتحصّن بالماضي، بكل إرثه المتخلف والرجعي. وهذا سينشئ نكسات متكرّرة. كما أوضحت الجريمة، وما تلاها من تصريحات، ضعف بنية الحكم ومجموعة اتخاذ القرار، خصوصا مع تصاعد نفوذ ولي العهد محمد بن سلمان والمتحلقين حوله، في مؤتمر مستقبل الاستثمار وعلى خلفية الجريمة. ذهب إلى إعلان الإنجازات، ولمّح إلى إعادة الحسابات فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية، مؤكّدا على التعاون التركي السعودي في جريمة خاشقجي. وأتبع التعاون بحجم الاستثمارات السعودية في تركيا.
يتّضح من جريمة قتل جمال خاشقجي أننا لسنا أمام إخفاق سلطوي في التخلص من معارض إصلاحي، بقدر ما أننا أمام أزمة نظام شاملة، يتحصّن فيها النظام السعودي بالماضي، وأفكاره وأدواته في إخضاع المواطنين، حتى وإن كان بالقتل والسلخ. وستظل هذه الواقعة البشعة نقطة فارقة في تاريخ نظام الحكم السعودي. وعلى الرغم من أن هناك سوابق قريبة منها إلا أن الوقت، والمجتمع السعودي بل والعالم ليس شبيها بعصور سابقة. وستظل صورة الجريمة نقطة فارقة لا في وعي السعوديين وحسب، ولكن كل من تابع كوارث نظم استبدادية تحكم وتنهب الثروات وتبدّدها. ولذلك فإن توابع المقتلة هذه ربما تتسع أبعادها مستقبلا أكثر مما يتخيّله بعضهم، حتى وإن أغلقت ملفات القضية.