ليس من المتيسّر تحديد معنى الكلمة الفرنسية bêtise، وليس من السّهل، بالتالي، نقلها إلى العربية. فإذا استعملت الكلمة في صيغة الجمع، فإنها قد تعني مجرد الحماقات، أما في صيغة المفرد فقد كانت تردّ في البداية إلى الحيوانية وغياب الذكاء، وبالتالي إلى ردود الفعل الغريزية.
ولعل لفظ "البهامة" الذي يقترحه بعضهم هو الأنسب هنا لنقل المعنى، وهو يعني التبلّد، وفي أقصى الأحوال الجهل وغياب المعارف، وهو الأمر الذي كانت تكفي التربية والتكوين لمقاومته.
استلهاماً من عنوان كتاب غوستاف فلوبير "قاموس الأفكار الجاهزة"، ذلك الكتاب الذي عمد فيه صاحبه إلى جمع العبارات الجاهزة التي كان الناس يتفوّهون بها في محيطه كي يظهروا بمظهر العارفين بمجريات الأمور، استلهاماً من هذا الكتاب حاول ميلان كونديرا تحديد البلاهة بمعناها الحديث فكتب: "إنها لا تعني الجهل، وإنما اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة".
غير أن هذا التحديد الذي يجمّله كونديرا في عبارته هذه يكاد يغفل جوهر المسألة. فهو عندما يحدّد البلاهة بأنها لافكر، يبرّئها إلى حدّ ما، ويرفع عنها كل "خطورتها"، تلك "الخطورة" التي كان جان كوكتو في ما قبل قد ألحّ عليها عندما كتب: "إن مأساة عصرنا، هي كون البلاهة تفكّر".
مأساة عصرنا، ومأساة البلاهة، لا تكمن إذاً في كونها لافكراً، وإنما في كونها لافكراً يفكّر، فهي لم تعد ذلك الجهل الذي قد يُتدارك عن طريق التربية والتكوين، ولا فراغ الفكر الذي قد يملأه الانفتاح على السؤال، وإنما غدت تقدّم نفسها على أنها فكر، بل كل الفكر، من هنا اكتفاؤها بذاتها وصلابتها وتجذرها، خصوصاً عندما ستزداد الأفكار الجاهزة ذيوعاً مع انتشار وسائط الإعلام وتقدمها.
ها هنا يجد نداء نيتشه كل مبرراته عندما يدعونا إلى "إزعاج البلاهة ومقاومتها". لا يستعمل الفيلسوف الألماني عبارة "ضرورة القضاء عليها"، إدراكاً منه لصعوبة القضاء النهائي على البلاهة وكونها ما تنفك تدفع الإنسان الحديث إلى أن يقدّم نفسه وفق ما تجري به الأمور ويسعى جهده أن يكون على شاكلتها con-forme فيغدو "أكثر محافظة conformisme من جميع المحافظين" على حد قول كونديرا.
لن ينفع المقاومة إذاً مجرّد تخطيء البلاهة وحملها على التفكير الصائب. وقد سبق أن قلنا إن مسألة البلاهة اليوم ليست مسألة صواب وخطأ، كما أنها لم تعد قضية جهل ومعرفة، وإنما هي قضية اللافكر الذي يحسب نفسه فكراً، غير أن هذا اللافكر لم يعد هو الخطأ الذي يكفي لمقاومته أن يعبّد الفكر الطريق ويضع "المنهج" ويسنّ "قواعد لتوجيه العقل"، كما أنه لم يعد مجرد توظيف للعقل في غير محلّه بحيث يكفي لتقويمه إقامة نقد يحدد مجال "الاستخدام المشروع للعقل"، وربما لم يعد أيضاً حتى ما وُسم بالرأي الأيديولوجي والوعي المغلوط الذي يكفي دحضه وتفنيده.
لن يتبقى للفكر، والحالة هذه، إلا نهج مقاومة ساخرة تفضح الجدية الكاذبة للبلاهة وتضعها في ارتباك، كي تفقدها شيئاً من ثقتها بنفسها، فتنزع عنها وقارها، و"تخرجها عن صوابها".
* مفكّر من المغرب