معلول.. عبقريّة الفقدان

02 مايو 2016
الخروج من معلول، 1948
+ الخط -

"كأنّي أحمل البكاء عنه، أنا حفيدته المأهولة حياتي حتّى العظم بذكرياته عن معلول وعن قمحها الرمزيّ العنيد وسروِها الحقيقيّ المترفّع عن ألم صريحٍ يخشى أن تنكسر قامته لو انحنى ليلتقط دمعته الصغيرة التي بحجم الكون".

الجدّ، الذي لا يعنيه أيّ انتقام ولا يفلّ عزيمته أي كلام "براغماتي" عن العدل الشحيح في الأرض، نذر حياته لإنقاذ ذاكرة "معلول" من جفاف يتربّص بها ومن حنين شاعريّ قد يغرقها في المجاز، و لصبّ سيرتها وصورتها فكرةً من فولاذ إنسانيّ صلب في الوعي المتفتّح لأجيال صاعدة إلى ما فوق سياج الخوف والخرافة، وأعلى.

لا ينفكّ يتقاسم مع الجذور طعامه وكلامه وإيمانه، يؤنس وحدتها ويؤنّبها إن تقاعست عن الامتداد والاشتداد. لا يتعب من تعلّم وتعليم درس "معلول" الأنقى: اقرأ تبقَ. اكتب تعد نفسك إلى منزلها الأول والأخير والوحيد، وإن تقطّعت بها وبك الطرق والمصائر وروايات الغزاة.

في أوائل الثمانينيات أنصت ميشيل خليفي بكاميرا مالحة وغير عاطفيّة إلى الاشتباك الهادئ الهادر لذاكرة أهل معلول بما ينزف من حياة لا تتخثّر في شقوق المكان الجريح. بل تسيل وتسيل كنهر من تفاصيل ريفيّة لا تذبل.

رافق المخرج النصراويّ المغترب أهالي "معلول" في زيارة لربيع لم يتمكّن الاحتلال من تهجيره وفي اعتذار خافت ومهذّب للنبات الذي يطلع، كنشيد وطنيّ لم يكتب بعد، من أنقاض البيوت. "معلول تحتفل بدمارها": اسم جنائزي ملتبس لفيلم يوثق لعبقريّة الفقدان الملتصق بالمكان والعاكف على لثم جراحه في عرس كافكاويّ من الخسارات وزراعة الذكريات واستنفار العدل لكي يستيقظ ويعيد الطبيعة إلى رشدها.

محاكمة الجلاد بفرح استعراضّي مبيّت ودفاع عن الحياة وتحريضها على الأخذ بيد المكان لكي يكبر معهم وفيهم، ولا يطيل طفولته أكثر مما يجب. أما البكاء على ما حلّ به وبهم ذات صيف فهو مؤجّل إلى يوم ساطع كقضاءٍ سنديانيّ مبرم، وكامل كإله. يوم يعودون الى غدهم هناك، يرثون ويورثون الأرض نبضاً، وقمحاَ. ودمعاً.


(كاتب فلسطيني/ لندن)


المساهمون