10 أكتوبر 2024
معرض الكتاب العربي وسط الحُطام
تحدّه من الشمال والشرق بلوكات إسْمنتية ورافعات. ويحدّه من الغرب البحر، ومن الجنوب مدخل طويل، معتم، مهجور؛ هو طريق جهنَّم المفضي إلى مدخله. كأن معرض الكتاب العربي في بيروت محاصَر بالأطلال. كأن هامشية موقعه من هامشية الثقافة والكتاب.
غير زمنه "الذهبي"، على ما يوصف، عندما كنا نأتي إليه مشياً على الأقدام، في قلب شارع الحمراء، أو الجامعة الأميركية. وهو منذ عشرين عاماً تقريباً، هنا، في ما يسمى "البيال"، حيث الوصول إليه مثل بلوغ القمر. الزحمة في بيروت قاتلة، ولكن ما أن تصل إلى عتبة المعرض في الجهة الشرقية منه، حتى تموت مئة ميتة. تلك الطريق مثل المضيق: سيارة واحدة خلف سيارة واحدة، تسيران كالسلحفاة. أسأل سائق التاكسي عن سبب هذه الزحمة بالذات، فيجيب "نهاية هذه الطريق.. أنظري.. مسدودة. لأنهم ينشئوون فيها مجمعاً بحرياً..". المهم أن ولا فائدة من الحماسة أو الصبر. مزاجك يتعكّر، وتدخل قاعة المعرض وأنتَ كئيب.
في الافتتاح، تتلقّى جرعةً إضافية من هذا الخراب. في حفله الذي تشترك فيه شخصياتٌ من المحاصصة الطائفية، يطالعك المتحدّث الرئيسي فيها، وهو من حصة تيار المستقبل، بخطاب ينبىء عن وجه آخر لهذا الحُطام. يتفاخر بـ"الوجه الثقافي للبنان، الذي لا يتغير"، ثم "ينظّر" لمبايعة تياره حزب الله، فيقول: "هناك تاريخ بين العالم العربي وإيران، وهذه العداوة يجب ألا تستمر، بل يجب أن تتحول هذه الخصومة إلى علاقة وثيقة مبنية على التاريخ المشترك". "تاريخ مشترك..!؟ التاريخ القريب..؟!". طبعاً الموضوع لا علاقة له بالثقافة والحضارة الإيرانيتَين، ولا بالجيرة الجغرافية. الموضوع هو ذاك الحضور الإيراني الطاغي الذي يرتدي شيئاً فشيئاً لبوساً رسمياً. وإن إيران احتلت أكبر الأجنحة في المعرض، وبصور الخميني وخامنئي ونصر الله؛ أخذت مكان العربية السعودية، الغائبة هذه السنة. ألف كتاب بالفارسية والعربية والإنكليزية. كتب التعبئة الممانعة، معروفة المضمون والاتجاه. فوق هذا الجناح
الضخم، ستة أجنحة تابعة لحزب الله، و"ثقافته" الممتدة. منها "المحجّة" و"الولاء" و"الأمير".. إلخ. هذا غير دور النشر "المدنية" الحاضنة لتوجهاته. كان ينقص جناح للحوثيين اليمنيين وآخر لمليشيات "ذو الفقار" أو "أبو فضل العباس"... ليكتمل مضمون اختلال ميزان القوى لصالح القطب الإيراني. وإذا انتهى الصراع السعودي الإيراني يوماً بتسويةٍ، فسوف يقاس ميزانها بحجم الأجنحة السعودية والعربية الأخرى، وحجم الجناح الإيراني بأحزابه الموالية.
ولكن المهم الآن أن المعرض، بأطلاله، بإيرانيته، لم يَعُد عربياً، ولا ثقافياً. وهنا حواري مع مديرة إحدى أكبر الأجنحة اللبنانية، يلخص شيئاً من هذه الحالة:
- كيف هو البيع هذه السنة؟
- الأسوأ على الإطلاق.
- لماذا؟
- لا عرب في المعرض. العرب كانوا يشترون الكتب بالجملة، بالصناديق. هذه السنة انسحبوا. حتى المصريون مشاركتهم ضعيفة.
- حسناً ولكن هناك إيرانيون...
- الإيرانيون يبيعون كتبهم، ولا يشترون كتبنا. ماذا سيشترون منا على كل حال؟ هم يريدون ولاءنا، لا أكثر.
تقولها بحزن، ونوع من الاستسلام. المناخ داخل قاعة المعرض يعمِّق الكآبة التي تحملها وأنتَ داخل إليه. قلّة الذوق، والنظافة، والإضاءة والتهوئة.. قلّة الناس، والزوار. وغبار ورثاثة يكسوان كل شيء. لا يوازيهم غير الفراغ الثقافي المقيم بينهم. من زمان.. ربما من سنوات، لم نَعُد نتوقع شيئاً من هذا المعرض، شبيه بالذي كنا نبحث عنه في المعارض السابقة. حيث كنا نلاحق الفكرة، والكاتب، نسأله، بسخريةٍ أو إعجاب، عن إنتاجه وكلماته. لا نتجاهل كاتباً، ولا نتملق آخر، أو "نحسب" حسابه. الآن، ماذا الآن؟ أفاجأ بكمية الكتب المترجمة، أسأل الناشرين، لماذا؟ والثلاثة عندهم الجواب نفسه: لم يَعُد هناك من يكتب بالعربية. وعلينا ملء الفراغات بالترجمات.. على العموم، إذا وجِد من يكتب، عليه أن يدفع مبلغاً مقدراً إلى عدد من دور النشر "القوية"، يطبعون كتابه، يهدونه كم نسخةً مجاناً، ثم يسوّقونه بإخلاص الرابح.
كل شيء في هذا المعرض يكرِّه الكاتب بنفسه، وبنظرائه. هو لا يستطيع أن يعيش من الكتابة، ولا يجد من يقرأه، حتى لو بيع كتابه، مسايرةً أو مصلحة أو محبةً. وإنْ لم يكن واقعاً في هوى الكتابة والقراءة، وإنْ لم يكن زاهداً، متقشّفاً، حارماً نفسه من الوقت، وهو بكامل سعادته.. فعليه الإجابة على السؤال: لماذا أنا أكتب؟ ولماذا أنشر؟
الهيئة المنظِّمة للمعرض، أي النادي الثقافي العربي، الغامضة الأداء، لا نعرف إذا كانت هي المسؤولة الرئيسية عن هذا التردّي. ولا هي معروفة أدوار اتحاد الناشرين اللبنانيين، وهو شريك المركز الثقافي العربي. وهناك هيئة "تمثيلية" ثالثة، هي المعنية مباشرة بالكتاب؛ أي اتحاد الكتاب اللبنانيين. تصوّر مثلاً أن هدف هذا الاتحاد ليس أقل من "لمّ شمل الكتّاب، وصيانة حقوقهم، ورفع مستواهم المادي والمعنوي، والعمل على إحياء التراث الفكري
والإبداعي، وتنشيط الحركة الفكرية، وتشجيع الكتاب الناشئين..". ولكن اتحاد الكتاب هذا لم يسمع به الكتاب الناشئون، ونسيه المخضْرمون. فآخر مرة تنبّهنا لوجوده، منذ سبع سنوات، كان بمناسبة انتخاب قيادته، والصراع السياسي، كالعادة.. حول الرئاسة.
واتحاد الكتاب اللبنانيين، مثل المركز الثقافي العربي واتحاد الناشرين العرب.. نشأ في خمسينات القرن الماضي. مجتمع مدني ثقافي عروبي قومي، توّاق نحو التقدّم والاستقلال. الثلاثة من عصر آخر، أفكار أخرى. الأول، الاتحاد، في حالة غيبوبة. والاثنان الباقيان ما زالا مستمرّين بالنشاط، ولكنهما يعملان في سرّية تامة، لا محاسبة ولا شفافية، لا يمكن أن تعرف ماذا يدور في كواليسهما. كيف ينتخبون؟ كيف يضعون البرامج والندوات، ويختارون الفعاليات.. ومن الواضح أنهما لا يباليان بشؤون الكتابة واللغة العربية، ولا بالكاتب. هذه هيئات مجتمع مدني شاخ عقلها، ففرغت، فملأتها توازنات المحاصصة المعهودة.
غابَ العرب عن هذا المعرض، وحضرت إيران وملحقاتها، فكان المعرض صورة مطابقة للوضع السياسي، وموازين القوى على الأرض. صورة مطابقة لما أصبحت عليه الآن الثقافة العربية، ومنها اللبنانية: شبيهةٌ بالمبنى الذي لا يطيق زائريه. وموقعه ينمّ عما في بواطن منظِّميه، من رغبةٍ شبه مكشوفة برمي كل هذه الأشياء غير المفيدة في البحر، مع زائريها القليلي الحيلة والأناقة، الذين لا يشبهون زائري المهرجانات السياحية الصيفية. وهؤلاء هم من علِّية القوم، وقد خُصِّصت لهم المعابد الأثرية، والقصور التاريخية، والمواقع الطبيعية الخلابة.
غير زمنه "الذهبي"، على ما يوصف، عندما كنا نأتي إليه مشياً على الأقدام، في قلب شارع الحمراء، أو الجامعة الأميركية. وهو منذ عشرين عاماً تقريباً، هنا، في ما يسمى "البيال"، حيث الوصول إليه مثل بلوغ القمر. الزحمة في بيروت قاتلة، ولكن ما أن تصل إلى عتبة المعرض في الجهة الشرقية منه، حتى تموت مئة ميتة. تلك الطريق مثل المضيق: سيارة واحدة خلف سيارة واحدة، تسيران كالسلحفاة. أسأل سائق التاكسي عن سبب هذه الزحمة بالذات، فيجيب "نهاية هذه الطريق.. أنظري.. مسدودة. لأنهم ينشئوون فيها مجمعاً بحرياً..". المهم أن ولا فائدة من الحماسة أو الصبر. مزاجك يتعكّر، وتدخل قاعة المعرض وأنتَ كئيب.
في الافتتاح، تتلقّى جرعةً إضافية من هذا الخراب. في حفله الذي تشترك فيه شخصياتٌ من المحاصصة الطائفية، يطالعك المتحدّث الرئيسي فيها، وهو من حصة تيار المستقبل، بخطاب ينبىء عن وجه آخر لهذا الحُطام. يتفاخر بـ"الوجه الثقافي للبنان، الذي لا يتغير"، ثم "ينظّر" لمبايعة تياره حزب الله، فيقول: "هناك تاريخ بين العالم العربي وإيران، وهذه العداوة يجب ألا تستمر، بل يجب أن تتحول هذه الخصومة إلى علاقة وثيقة مبنية على التاريخ المشترك". "تاريخ مشترك..!؟ التاريخ القريب..؟!". طبعاً الموضوع لا علاقة له بالثقافة والحضارة الإيرانيتَين، ولا بالجيرة الجغرافية. الموضوع هو ذاك الحضور الإيراني الطاغي الذي يرتدي شيئاً فشيئاً لبوساً رسمياً. وإن إيران احتلت أكبر الأجنحة في المعرض، وبصور الخميني وخامنئي ونصر الله؛ أخذت مكان العربية السعودية، الغائبة هذه السنة. ألف كتاب بالفارسية والعربية والإنكليزية. كتب التعبئة الممانعة، معروفة المضمون والاتجاه. فوق هذا الجناح
ولكن المهم الآن أن المعرض، بأطلاله، بإيرانيته، لم يَعُد عربياً، ولا ثقافياً. وهنا حواري مع مديرة إحدى أكبر الأجنحة اللبنانية، يلخص شيئاً من هذه الحالة:
- كيف هو البيع هذه السنة؟
- الأسوأ على الإطلاق.
- لماذا؟
- لا عرب في المعرض. العرب كانوا يشترون الكتب بالجملة، بالصناديق. هذه السنة انسحبوا. حتى المصريون مشاركتهم ضعيفة.
- حسناً ولكن هناك إيرانيون...
- الإيرانيون يبيعون كتبهم، ولا يشترون كتبنا. ماذا سيشترون منا على كل حال؟ هم يريدون ولاءنا، لا أكثر.
تقولها بحزن، ونوع من الاستسلام. المناخ داخل قاعة المعرض يعمِّق الكآبة التي تحملها وأنتَ داخل إليه. قلّة الذوق، والنظافة، والإضاءة والتهوئة.. قلّة الناس، والزوار. وغبار ورثاثة يكسوان كل شيء. لا يوازيهم غير الفراغ الثقافي المقيم بينهم. من زمان.. ربما من سنوات، لم نَعُد نتوقع شيئاً من هذا المعرض، شبيه بالذي كنا نبحث عنه في المعارض السابقة. حيث كنا نلاحق الفكرة، والكاتب، نسأله، بسخريةٍ أو إعجاب، عن إنتاجه وكلماته. لا نتجاهل كاتباً، ولا نتملق آخر، أو "نحسب" حسابه. الآن، ماذا الآن؟ أفاجأ بكمية الكتب المترجمة، أسأل الناشرين، لماذا؟ والثلاثة عندهم الجواب نفسه: لم يَعُد هناك من يكتب بالعربية. وعلينا ملء الفراغات بالترجمات.. على العموم، إذا وجِد من يكتب، عليه أن يدفع مبلغاً مقدراً إلى عدد من دور النشر "القوية"، يطبعون كتابه، يهدونه كم نسخةً مجاناً، ثم يسوّقونه بإخلاص الرابح.
كل شيء في هذا المعرض يكرِّه الكاتب بنفسه، وبنظرائه. هو لا يستطيع أن يعيش من الكتابة، ولا يجد من يقرأه، حتى لو بيع كتابه، مسايرةً أو مصلحة أو محبةً. وإنْ لم يكن واقعاً في هوى الكتابة والقراءة، وإنْ لم يكن زاهداً، متقشّفاً، حارماً نفسه من الوقت، وهو بكامل سعادته.. فعليه الإجابة على السؤال: لماذا أنا أكتب؟ ولماذا أنشر؟
الهيئة المنظِّمة للمعرض، أي النادي الثقافي العربي، الغامضة الأداء، لا نعرف إذا كانت هي المسؤولة الرئيسية عن هذا التردّي. ولا هي معروفة أدوار اتحاد الناشرين اللبنانيين، وهو شريك المركز الثقافي العربي. وهناك هيئة "تمثيلية" ثالثة، هي المعنية مباشرة بالكتاب؛ أي اتحاد الكتاب اللبنانيين. تصوّر مثلاً أن هدف هذا الاتحاد ليس أقل من "لمّ شمل الكتّاب، وصيانة حقوقهم، ورفع مستواهم المادي والمعنوي، والعمل على إحياء التراث الفكري
واتحاد الكتاب اللبنانيين، مثل المركز الثقافي العربي واتحاد الناشرين العرب.. نشأ في خمسينات القرن الماضي. مجتمع مدني ثقافي عروبي قومي، توّاق نحو التقدّم والاستقلال. الثلاثة من عصر آخر، أفكار أخرى. الأول، الاتحاد، في حالة غيبوبة. والاثنان الباقيان ما زالا مستمرّين بالنشاط، ولكنهما يعملان في سرّية تامة، لا محاسبة ولا شفافية، لا يمكن أن تعرف ماذا يدور في كواليسهما. كيف ينتخبون؟ كيف يضعون البرامج والندوات، ويختارون الفعاليات.. ومن الواضح أنهما لا يباليان بشؤون الكتابة واللغة العربية، ولا بالكاتب. هذه هيئات مجتمع مدني شاخ عقلها، ففرغت، فملأتها توازنات المحاصصة المعهودة.
غابَ العرب عن هذا المعرض، وحضرت إيران وملحقاتها، فكان المعرض صورة مطابقة للوضع السياسي، وموازين القوى على الأرض. صورة مطابقة لما أصبحت عليه الآن الثقافة العربية، ومنها اللبنانية: شبيهةٌ بالمبنى الذي لا يطيق زائريه. وموقعه ينمّ عما في بواطن منظِّميه، من رغبةٍ شبه مكشوفة برمي كل هذه الأشياء غير المفيدة في البحر، مع زائريها القليلي الحيلة والأناقة، الذين لا يشبهون زائري المهرجانات السياحية الصيفية. وهؤلاء هم من علِّية القوم، وقد خُصِّصت لهم المعابد الأثرية، والقصور التاريخية، والمواقع الطبيعية الخلابة.