بطريقة تحاكي طلائع البعث في سورية، تطلب "الجندرما" (حرس الحدود) التركية الانتظام في صفوف رباعية. نصف ساعة للتأكد من هوية الأسماء وتصوير المغادرين وتفتيش الحقائب. وفيما يلتقط النظر مخفر "بيسون" المقابل، يحضر إلى الذهن على الفور القصف الروسي الأخير لمخيمات أوبين القريبة بريف اللاذقية، والتي تبعد نحو 2 كيلومتر عن الحدود التركية، قبل أن يقطع صوت حامل البندقية شريط ذاكرتك ناطقاً بكلمة العبور "غيتش".
اقرأ أيضاً: اعتداءات بالضرب واعتقالات تطاول صحافيين سوريين على الحدود التركية
بعد مضي أكثر من أربعة أعوام على بدء الثورة السورية، أضحى حجم الفروق كبيراً على الحدود السورية - التركية؛ سواتر ترابية على طول طريق النزول لوقف تدفق اللاجئين للأراضي التركية، في مقابل قضم الجندرما التركية لمساحات إضافية من الأراضي السورية لتدعيم الحدود في ظل الفوضى الحالية، ولكن وبمجرد أن تطأ قدماك الأرض السورية، تحضر سورية، سواء عبر الدلائل السمعية أو البصرية.
أصوات القصف في الجبال الممتدة يُسمع صداها على الحدود. يختلف السائرون حول طبيعتها: هل هي قذائف هاون أو مروحيات ترمي براميل متفجرة أو طيران حربي يقصف بالصواريخ أو راجمات صواريخ؟ لكنهم يتفقون على أن مصدرها من جب الأحمر شرقي بلدة سلمى بجبل الأكراد، وفي محيط برج القصب المطل على طريق اللاذقية حلب، وبرج زاهية وقرية عطيرة في جبال التركمان، حيث تدور معارك عنيفة بين قوات النظام السوري ومقاتلي المعارضة.
تستوقفك أثناء دخولك المناطق المحررة مخيمات بلاستيكية باللونين الأزرق والأبيض. من الواضح أن هذه المخيمات هي لنازحين من المناطق الساخنة. تتوزع على طول الطريق الممتد أمامك. وعند السؤال عن ماهية هذه المخيمات وهوية سكانها، يتضح أن هناك خمسة مخيمات في ريف اللاذقية هي اليمضية وأوربين والزيتونة والنحل ومخيم طوروس، ويعدّ أهم هذه المخيمات هو اليمضية وأوبين، إذ يلاصق الأول الحدود السورية - التركية، وهو أكبر المخيمات وأقدمها. تأسس منذ بداية العمل المسلّح في ريف اللاذقية قبل ثلاثة أعوام، وقبل معارك جسر الشغور، كان هناك 600 عائلة، وبعد معركة الجسر الشهيرة، أضحى هناك نحو 1000 عائلة. وهو أكثر المخيمات تنظيماً. وتعمل المنظمات الإغاثية منذ وقت طويل على تلبية حاجاته.
أما مخيم أوبين القريب، يقع على مسافة 2 كيلومتر من الحدود التركية، وهو مخيم جديد أنشئ على عجل بعد معركتي جسر الشغور وسهل الغاب. وبالتالي فهو غير منظم، يوجد فيه قرابة، 340 عائلة بحسب أرقام رسمية، معظم سكانه من سهل الغاب وجسر الشغور.
بعد النزوح الأخير، إثر اندلاع معارك جبلي التركمان والأكراد، لجأ الكثير من السكان إلى مخيم أوبين، وأضحت الخيمة التي تتسع لشخصين أو ثلاثة تستقبل 7 إلى 8، بحسب نشطاء من المنطقة التقتهم "العربي الجديد"، في حين أشاروا إلى أن بقية المخيمات هي أقرب إلى جسر الشغور.
على طريق الدخول إلى الأراضي السورية، يجلس عشرات الأشخاص على التراب، تحتجزهم الجندرما التركية بعد محاولات فاشلة بالتسلل. فيما يتوزع سوريون آخرون على طول الطريق المؤدي إلى الداخل السوري، بغية إيجاد وقت ملائم لمغافلة الشرطة التركية، إذ يقوم الدلّالون (شبكات تهريب عادة ما يكونون من أبناء المنطقة لهم معرفة بالجندرما التركية بحكم رابط اللغة المشتركة، ولهم باع في خريطة الحدود السورية التركية)، بالتنسيق مع الجندرما أو استغلال نوبة الحرس مثلاً، أو الدخول في مناطق وعرة بغية تهريب السوريين إلى تركيا مقابل مبلغ مادي يقدّر بخمسة آلاف ليرة سورية.
اقرأ أيضاً: التهريب على الحدود السورية أحد موجبات التدخّل التركي
غالباً ما يضطر الرجال والنساء والأطفال إلى العبور زاحفين عبر طرق سرية ليلاً فيها منحدرات خطرة بسبب الطبيعة الجغرافية. وقد تفترق الأسر عن بعضها البعض بسبب اكتشاف أمر بعضهم وهروب الآخرين. فيما يصعب على حرس الحدود مراقبة جميع الطرق. وتقول منظمة "هيومن رايتس واتش" نقلاً عن سكان إن "بعض الجماعات استعانت بحجاب النساء في صُنع حبال لرفع النساء والأطفال بعد وقوعهم على تلال شديدة الانحدار".
تحتاج الفترة التي تستغرق دخولك للأراضي التركية بطريقة غير شرعية نحو نصف ساعة على الأقل، تضطر فيها للاختباء بين الأشجار تارة أو منحدرات وعرة وخطرة، خصوصاً إذا كان الطقس ماطراً، وتحتاج أكثر من ذلك إلى سرعة عالية في الجري، لأن هناك مرحلة خطرة على طريق يراقب معظمه حرس الحدود، لأن افتضاح أمرك يعني احتجازك لعشرات الساعات والعودة بك مرة أخرى إلى سورية، بخلاف السنوات التي مضت، والتي كانت طرق العبور غير الشرعية فيها سهلة.
ينطبق هذا الحال على محاولات الدخول إلى سورية. لكن إذ أردت القدوم إلى سورية من دون تسجيل اسمك لعدم رغبتك للعودة بعد خمسة عشر يوماً، وهي المدة التي يسمح لك فيها بالبقاء في سورية والسماح لك بالعودة إلى تركيا عبر إجازة مؤقتة، فإن ذلك يبدو بسيطاً، إذ يمكنك تسليم نفسك لحرس الحدود التركية، حيث يتم احتجازك لعدد من الساعات، تعمد خلالها الجندرما إلى تصويرك، ثم الإشارة إليك للجلوس جانباً، بعد ذلك تقطع الشريط الفاصل بين الدولتين، وتدخل إلى الأراضي المحررة.
عند المضي في طريق يتوسط الجبال والأشجار المحيطة بك من كل جانب، يستوقفك حاجز يحرسه ثلاثة جنود من مقاتلي المعارضة السورية، يحملون سلاحاً خفيفاً ولا يفتشون أحداً أو يتعرضون له سوى تفحص الداخل والخارج. عند السؤال يتضح أنهم مقاتلون تركمان تابعون لـ "الجيش السوري الحر". تقول إحدى السيدات العشرينية لـ"العربي الجديد" إن هؤلاء الحرس "منعوها مع زوجها وطفلها عند الساعة الحادية عشر ليلاً من مغادرة البوابة للتسلل إلى الأراضي التركية، بسبب الانتخابات البرلمانية الأخيرة (مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي)، لأن الحراسة التركية تكون على أشدها، وخشية إطلاق النار عليهم في حال اكتشف أمرهم"، ما قد يشير إلى أن هذه الكتيبة مهمتها تقتصر على حماية السوريين لا إعاقة طريقهم.
ويُعدّ التركمان من أكبر القوميات الموجودة في سورية بعد العرب، ويدعى الجنود التركمان في محافظة اللاذقية لواء جبل التركمان، والذي يستمد جنوده من القرى التركمانية على الحدود السورية التركية، وتم تنظيمها في ظل الثورة السورية بقيادة العقيد محمد عوض، والذي يتولى مكاناً في إدارة الجيش السوري الحر وترتبط كتائب تركمان الجبل مع الكتلة الوطنية التركمانية السورية.
نحو الطريق في جبال التركمان، وهي سلسلة جبال في ريف اللاذقية الشمالية على الحدود السورية التركية تلحظ وجود سيارات في الغالب دفع رباعي، تابعة لـ "الجيش السوري الحر" أو لكتائب إسلامية، تشاهد شريطاً شفافاً لاصقاً كتب عليه "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، إما في الجهة الأمامية لبلور السيارة، أو الجهة الخلفية، في حين تستبدل نمرة السيارة بعبارات تتدرج بين إسلامية وشعبية مثل "صلّوا على النبي" أو "غدار يا زمن"... المهم أنّك في كل تلك المنطقة المحسوبة على النظام، لكن الخارجة عنه بالكامل، لا تجد أثراً لملامح "سورية الأسد".
... يتبع