01 نوفمبر 2024
معاش "الغلابة" في مصر
حملت ثورة يناير في مصر شعارا يتعلق بـ"العيش الكريم، والكرامة الإنسانية، والحرية الأساسية، والعدالة الاجتماعية"؛ وظل هذا الشعار يمثل حالةً مطلبيةً، تشكل في حقيقة الأمر تعرفاً على حاجاته الأساسية، والدفاع عنها والتأكيد عليها. كان هذا الشعار، بما يشكله من مربع غاية في الأهمية، يتعلق بكلمته الأولى بـ"العيش"، وألحق ذلك المعاش بالكرامة، ليؤكد أنه ليس مجرد العيش، بل هو العيش الكريم الذي يمكّن لكرامة الإنسان، ويؤكد على حرياته، فإن خبزاً مغموساً في الذل هو عين العبودية، وإن عيشاً محفوفاً بالحرية هو الذي يحقق معنى الكرامة الإنسانية والتكريم الإلهي للإنسان والإنسانية، والعدالة الاجتماعية ملحقة هي الأخرى بتلك العناصر جميعاً، فتؤكد أن الأمر يتعلق بعدالة توزيع الموارد، بما يحقق مساواة حقيقية وعدالة كلية، ترسخ للمعاني التي تحملها هذه الثورة.
يتعلق ذلك كله بالمفهوم الذي يشيع في كلام الناس، وهو مفهوم "الغلابة"، الذي يشير إلى هؤلاء الذين يمثلون "ملح الأرض" و"السواد الأعظم" و"الأغلبية الغالبة"، بما يمثلون شعب مصر بتنوعاته. إنما يشير هذا المفهوم إلى معاني المطالبة بالخروج من حال الفقر والجوع إلى حال من الاكتفاء في المعاش، محققا ضروراته الأساسية من طعام وملبس وصحة، وكأن "مفهوم الغلابة" يشير إلى حالة الظلم الواقع على هؤلاء المغلوبين على أمرهم، الساقطين من حسابات السلطان المستبد الذي يتحالف مع الأغنياء، من دون أدنى اعتبار للفقراء وعالم الغلابة.
ولكن هؤلاء الغلابة هم الذين يديرون عجلة الحياة، ويعملون في كل مكان، ويقدمون الخدمات ويسيرون الأعمال. ومن ثم، فإن هؤلاء "الغلابة" هم "الغالبية العظمى"، ومن حقهم أن ترسم السياسات للنهوض بهم وبأحوالهم، خصوصاً أنه قد طاولهم الإهمال والإغفال المتعمد، ما يشكل أكبر خطر على المجتمع، إذ تدهور حال بعضٍ من هؤلاء، وانحدروا تحت خط الفقر المدقع، وصار بعضهم من فئة المهمشين، سواء في العشوائيات أو من ساكني القبور. ظل هؤلاء الذين يجرون على معاشهم وأرزاقهم مثالاً على هؤلاء الغلابة، هم غالبية غالبة، لكنها مغلوبة مطحونة مظلومة.
من هنا، ربما كانت هذه الأمور التي طاولت هذه الفئة من ضيقٍ وتضييق، فزادت من حالهم
تدهورا، وزادت من معاشهم تراجعا، وأدت إلى حالةٍ غير مقبولة أو معقولة في شأن تدبير معاشهم ومتطلباتهم الضرورية، وصار حالهم من سيئ إلى أسوأ، واقترنت بظواهر تتعلق بحالةٍ احتجاجية، لكنه احتجاج سلبي، تمثل في بعض محاولات الانتحار اليائس والبائس من بعض هؤلاء، حينما لا يستطيعون تدبير معاشهم، أو القيام بواجباتهم حيال معاش أسرهم، أو متطلبات تربية أولادهم. وظل ذلك يشكل حالةً من الضنك المقيم والحرج العميم وتدهور الحال من سيئ إلى أسوأ، خصوصاً وقد ارتفعت الأسعار، وافترس غولها هؤلاء، وارتفع سعر الدولار الذي ارتفع معه كل شيء، وصارت الأمور ضاغطةً على هؤلاء في معاشهم.
وعلى الرغم من أن مطالبهم يسيرة، ليست كبيرة، ولا بالعسيرة، تتعلق بتدبير قوت يومهم وسداد رمق من يعيلون من أسرهم، إلا أن منظومة الانقلاب لم تكن لتراعي هذه الفئة، ولم يكن من المنقلب إلا أن يطالبهم بمزيدٍ من الصبر والتحمل، واعتبر ذلك اتفاقاً معهم، فإذا ما عبّر هؤلاء وتألموا أو تضوّروا جوعاً، رد عليهم من فوره "مفيش"، "معنديش"، "مش قادر أديك"، على الرغم من أنهم يرون، في الوقت نفسه، أن المنقلب يرفع رواتب ومعاشات فئات بعينها من سدنة كرسي سلطانه، من عسكر أو شرطة أو قضاة أو رجال إعلام، تقدر رواتبهم بالآلاف، وبعضهم بالملايين. يرون كل ذلك الإغداق على هؤلاء، ويلحظون ذلك الإمساك على حاجاتهم البسيطة ومطالبهم اليسيرة، ويستخف المنقلب بكل هؤلاء، مطلقا بعضاً من معسول كلامه، لكن معسول الكلام، وفائض الأقوال لا يسد رمقاً، ولا يقيم أوداً.
كان ذلك محفّزا على تصاعد مصانع الغضب لدى هؤلاء، حيث يرون الإسراف في مقام، والتقتير في حقهم، من دون أدنى مسوّغ، إلا أن يكون ذلك استخفافاً بهم، وبمعاشهم وأحوالهم، تتصاعد معامل الغضب لدى هؤلاء، لتكون مع تراكمها مطالب لضروراتٍ لم يعد يتحمل هؤلاء ألا يطلبوها أو يطالبوا بها. ومن هنا، تخرج الدعوات، لتؤكد أن من حق هؤلاء أن يعلنوا عن غضبهم، ويؤكدوا على حقوقهم في الاحتجاج والتظاهر. ومن أسفٍ، أن تجد بعض هؤلاء من الشعب نفسه، لا يقدّر هذه المطالب، قائلا إن هؤلاء، إن كانوا لم ينزلوا دفاعاً عن حرمة الدم، فهل يمكنهم النزول والاحتجاج من أجل الطعام (المم)، وكأنهم يتندّرون على تلك المطالب. ومن المؤكد أن مطالبة هؤلاء بضروراتهم الحياتية، ومعاشاتهم الأساسية، ليس لأحدٍ، مهما صادف من تضحياتٍ، أن يقلل من هذه الضرورات، أو يستخف بتلك المطالبات. هذا الشعب بأسره، والغلابة الذين يشكلون غالبيته، وهؤلاء الذين احتجوا، واستبيحت دماؤهم وهؤلاء الذين اعتقلوا، وقيدت حرياتهم، وذلكم الذين طوردوا ونفوا من أوطانهم، كل هؤلاء إنما يشكلون حالةً مطلبيةً، لا زالت تستلهم مربع شعارات الثورة "ثورة يناير" (العيش والحرية والكرامة والعدالة).
تقوم المنظومة الانقلابية بكل عملٍ، تحاول فيه جعل هؤلاء الناس كقطيع يساق، وكأن ليس من
حقهم أن يطالبوا بالعيش الكريم، ويعتبرون ذلك يستهدف الاستقرار، ويؤدي إلى الفوضى، ويقوّض الدولة. هكذا يقول هؤلاء، لكن هؤلاء "الدولتية"، في حقيقة الأمر، لا يقتربون من معاقل فسادهم، أو من حصون ظلمهم، أو من هؤلاء أصحاب المصالح من رجال الأعمال الذين ارتبطت مصالحهم بهم، لا يمكن، بأي حال، أن يكون ذلك هو الحال، فإن هؤلاء "الغلابة" الغالبية، وقد تدهورت أحوالهم، لا بد أن يعلنوا عن غضبهم، ويطالبوا بحقوقهم، ويحتجوا في مواجهة من ظلمهم، أو من استخفّ بضروراتهم، ومع تلك الحالة المستحيلة التي أتت على هؤلاء جميعاً، وصاروا يتأوهون، ويشعرون بالعجز والضيق والضنك، أن يعلنوا عن هذا الألم المقترن بذلك الغضب. إنها الكرامة الإنسانية، حينما تتفجر لتحمي ذلك الإنسان ومادة العمران من ظلمٍ، زحف على كل شيء، وخرّب البنيان والكيان والإنسان.
تلوح تلك المنظومة الانقلابية التي اتخذت من سياساتها الأمنية البوليسية، ومن استراتيجياتها الفاشية، أسلوباً وطريقةً لمواجهة هذه المطالب، فتتحدّث عن فرد الجيش في ست ساعات، والتهديد المباشر بالضرب في المليان، وحملات الاعتقال والمداهمات التي تطلق، قبيل أي أمر يتعلق بتلك المطالبات. ولكن الشاهد في هذا الأمر أن مصانع الغضب آن لها أن تعبر عن نفسها، تطالب بضروراتها، وأن تنتزع حقوقها، وأن هذا النظام الفاشي، على الرغم من سطوته وطغيانه كبيت العنكبوت، ونرى كيف يصيبه الهلع والفزع، فيعسكر في كل مكان في محاولةٍ لوأد أي تحرك. نقول لهؤلاء "الغلابة" الغالبية، آن لهم أن يطالبوا بالعيش الكريم، لأن ذلك هو قاعدة عدالتهم وحريتهم ومناط كرامتهم، فليعي الجميع الدرس، ولتعرف هذه الطغمة المستبدة أن الظلم للإنسان هو بدايات خراب العمران. ولا يتأسّس بنيانٌ، إلا بعيش كريم وأمان.
يتعلق ذلك كله بالمفهوم الذي يشيع في كلام الناس، وهو مفهوم "الغلابة"، الذي يشير إلى هؤلاء الذين يمثلون "ملح الأرض" و"السواد الأعظم" و"الأغلبية الغالبة"، بما يمثلون شعب مصر بتنوعاته. إنما يشير هذا المفهوم إلى معاني المطالبة بالخروج من حال الفقر والجوع إلى حال من الاكتفاء في المعاش، محققا ضروراته الأساسية من طعام وملبس وصحة، وكأن "مفهوم الغلابة" يشير إلى حالة الظلم الواقع على هؤلاء المغلوبين على أمرهم، الساقطين من حسابات السلطان المستبد الذي يتحالف مع الأغنياء، من دون أدنى اعتبار للفقراء وعالم الغلابة.
ولكن هؤلاء الغلابة هم الذين يديرون عجلة الحياة، ويعملون في كل مكان، ويقدمون الخدمات ويسيرون الأعمال. ومن ثم، فإن هؤلاء "الغلابة" هم "الغالبية العظمى"، ومن حقهم أن ترسم السياسات للنهوض بهم وبأحوالهم، خصوصاً أنه قد طاولهم الإهمال والإغفال المتعمد، ما يشكل أكبر خطر على المجتمع، إذ تدهور حال بعضٍ من هؤلاء، وانحدروا تحت خط الفقر المدقع، وصار بعضهم من فئة المهمشين، سواء في العشوائيات أو من ساكني القبور. ظل هؤلاء الذين يجرون على معاشهم وأرزاقهم مثالاً على هؤلاء الغلابة، هم غالبية غالبة، لكنها مغلوبة مطحونة مظلومة.
من هنا، ربما كانت هذه الأمور التي طاولت هذه الفئة من ضيقٍ وتضييق، فزادت من حالهم
وعلى الرغم من أن مطالبهم يسيرة، ليست كبيرة، ولا بالعسيرة، تتعلق بتدبير قوت يومهم وسداد رمق من يعيلون من أسرهم، إلا أن منظومة الانقلاب لم تكن لتراعي هذه الفئة، ولم يكن من المنقلب إلا أن يطالبهم بمزيدٍ من الصبر والتحمل، واعتبر ذلك اتفاقاً معهم، فإذا ما عبّر هؤلاء وتألموا أو تضوّروا جوعاً، رد عليهم من فوره "مفيش"، "معنديش"، "مش قادر أديك"، على الرغم من أنهم يرون، في الوقت نفسه، أن المنقلب يرفع رواتب ومعاشات فئات بعينها من سدنة كرسي سلطانه، من عسكر أو شرطة أو قضاة أو رجال إعلام، تقدر رواتبهم بالآلاف، وبعضهم بالملايين. يرون كل ذلك الإغداق على هؤلاء، ويلحظون ذلك الإمساك على حاجاتهم البسيطة ومطالبهم اليسيرة، ويستخف المنقلب بكل هؤلاء، مطلقا بعضاً من معسول كلامه، لكن معسول الكلام، وفائض الأقوال لا يسد رمقاً، ولا يقيم أوداً.
كان ذلك محفّزا على تصاعد مصانع الغضب لدى هؤلاء، حيث يرون الإسراف في مقام، والتقتير في حقهم، من دون أدنى مسوّغ، إلا أن يكون ذلك استخفافاً بهم، وبمعاشهم وأحوالهم، تتصاعد معامل الغضب لدى هؤلاء، لتكون مع تراكمها مطالب لضروراتٍ لم يعد يتحمل هؤلاء ألا يطلبوها أو يطالبوا بها. ومن هنا، تخرج الدعوات، لتؤكد أن من حق هؤلاء أن يعلنوا عن غضبهم، ويؤكدوا على حقوقهم في الاحتجاج والتظاهر. ومن أسفٍ، أن تجد بعض هؤلاء من الشعب نفسه، لا يقدّر هذه المطالب، قائلا إن هؤلاء، إن كانوا لم ينزلوا دفاعاً عن حرمة الدم، فهل يمكنهم النزول والاحتجاج من أجل الطعام (المم)، وكأنهم يتندّرون على تلك المطالب. ومن المؤكد أن مطالبة هؤلاء بضروراتهم الحياتية، ومعاشاتهم الأساسية، ليس لأحدٍ، مهما صادف من تضحياتٍ، أن يقلل من هذه الضرورات، أو يستخف بتلك المطالبات. هذا الشعب بأسره، والغلابة الذين يشكلون غالبيته، وهؤلاء الذين احتجوا، واستبيحت دماؤهم وهؤلاء الذين اعتقلوا، وقيدت حرياتهم، وذلكم الذين طوردوا ونفوا من أوطانهم، كل هؤلاء إنما يشكلون حالةً مطلبيةً، لا زالت تستلهم مربع شعارات الثورة "ثورة يناير" (العيش والحرية والكرامة والعدالة).
تقوم المنظومة الانقلابية بكل عملٍ، تحاول فيه جعل هؤلاء الناس كقطيع يساق، وكأن ليس من
تلوح تلك المنظومة الانقلابية التي اتخذت من سياساتها الأمنية البوليسية، ومن استراتيجياتها الفاشية، أسلوباً وطريقةً لمواجهة هذه المطالب، فتتحدّث عن فرد الجيش في ست ساعات، والتهديد المباشر بالضرب في المليان، وحملات الاعتقال والمداهمات التي تطلق، قبيل أي أمر يتعلق بتلك المطالبات. ولكن الشاهد في هذا الأمر أن مصانع الغضب آن لها أن تعبر عن نفسها، تطالب بضروراتها، وأن تنتزع حقوقها، وأن هذا النظام الفاشي، على الرغم من سطوته وطغيانه كبيت العنكبوت، ونرى كيف يصيبه الهلع والفزع، فيعسكر في كل مكان في محاولةٍ لوأد أي تحرك. نقول لهؤلاء "الغلابة" الغالبية، آن لهم أن يطالبوا بالعيش الكريم، لأن ذلك هو قاعدة عدالتهم وحريتهم ومناط كرامتهم، فليعي الجميع الدرس، ولتعرف هذه الطغمة المستبدة أن الظلم للإنسان هو بدايات خراب العمران. ولا يتأسّس بنيانٌ، إلا بعيش كريم وأمان.