08 نوفمبر 2024
مطالب دول الحصار.. الدلالات والأبعاد
تبدو المطالب التي قدّمتها السعودية والإمارات والبحرين ومصر إلى قطر وكأنها وثيقة استسلام، لا تنتظر غير توقيع السلطات القطرية والمصادقة عليها. شروطٌ مجحفة لا هامش فيها لتفاوضٍ أو تسويةٍ ما. وإذا كان هذا يذكّر بأزماتٍ عربية سابقة، أخفق النظام الإقليمي العربي في تدبيرها ومعالجتها، فإنه يعيد إلى الواجهة، أيضاً، أعطاب الدبلوماسية العربية العاجزة عن توسّل الممكن الذي يمكن أن يُجنب الانجرار إلى ما لا تحمد عقباه.
يمكن تقسيم مطالب دول الحصار إلى مطالب محورية تشكل عصب هذه الأزمة، وأخرى مغذية لها، بحيث يمكن التفاوض بشأنها على ما يبدو. فمطالبةُ الدوحة بتخفيض التمثيل الدبلوماسي مع إيران، والاقتصار على العلاقات التجارية معها، وإغلاقِ القاعدة التركية ووقف التعاون العسكري مع أنقرة، وإغلاقِ شبكة الجزيرة، كلها مطالبُ تصب في محاولة الوصول إلى مشهدٍ استراتيجي جديد في المنطقة، لا تسعفُ الإمكانات السياسية والعسكرية والاقتصادية للدول الأربع في تنزيله على أرض الواقع، على اعتبار أن ذلك يصطدم بجملة معطياتٍ لا يمكن القفز عليها، أولها إخفاقُ التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن في إخراج إيران من المعادلة اليمنية التي تزداد تعقيداتها السياسية والميدانية. وليس هناك ما يفيد أن الحسم العسكري هناك أضحى قريباً. كما أن تركيا تتجه إلى إعادة ترتيب أولوياتها في الملف السوري بشكلٍ قد يجعلها تقترب من المحور الروسي الإيراني.
هذا يعني أن إيران بصدد كسب جولاتٍ أخرى في حربها الباردة ضد السعودية، جديدها هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في معركة الموصل، والمتغيرات الميدانية المتلاحقة في سورية، ناهيك عن مكاسبها المجانية التي تحصدها من الأزمة الحالية.
من ناحية أخرى، لا يمكن فصل هذه المطالب عن تداعيات الربيع العربي. صحيح أنه لم يزهر في معظم بلدانه، بعد نجاح قوى الثورة المضادة في إجهاض الثورات، والالتفاف على مساراتها السلمية والديمقراطية. لكن، لا يمكن إنكار أنه وضع نقطة نهايةٍ لأحد فصول السلطوية العربية، بمختلف أطيافها الثيوقراطية والطائفية والعسكرتارية.
تدرك هذه السلطوية، جيداً، أن ما حدث قبل ستة أعوام فتح أفقاً فكرياً وثقافياً جديداً في
المنطقة، لا سيما في ما يخصّ إعادة النظر في علاقة الدولة بالمجتمع. من هنا، فالمطالبةُ بإغلاق شبكة الجزيرة، على الرغم مما يمكن أن يُثار بشأن مهنيتها في أحيانٍ كثيرة، تعكس رغبة مريضة في الحد من امتدادات هذا الأفق، من خلال تدجين الرأي العام العربي، وإرجاع الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، ما يبدو ضرباً من الخيال، في عالمٍ تتجاذب فيه أنماط الوعي والتفكير والسلوك بشكل غير مسبوق، فلم تعد السياسة حكراً على السلطة والنخب التابعة لها، بل صارت تنتقل، بكل سلاسة وعفوية، بين الشارع والإعلام الاجتماعي، في أحد أكثر التجليات دلالةً لارتباط السياسة والتكنولوجيا.
إذا كانت قوى الثورة المضادة قد نجحت في وقف المد الديمقراطي، وإعاقة التحوّل نحو أنظمة مدنية، فإنه يصعب توقع ما سيحدث في مقبل الأعوام، في ظل إصرار النخب الحاكمة على إعادة إنتاج آليات الاستبداد، واحتكار السلطة والثروة، وحماية قوى الفساد. لذلك، مطالبةُ دول الحصار قطر بقطع علاقاتها مع تنظيم الإخوان المسلمين ووقف دعمها المعارضين، تعني أن هذه الدول تدرك أن وقف عملية التدافع الاجتماعي والسياسي في المنطقة لن يتأتى إلا بالتوقف عن دعم التنظيمات المعارِضة، وبالتالي، تمكين السلطوية العربية من إحكام قبضتها من جديد.
وبحكم تحكمها في موارد بلدانها المالية والسياسية، ترى معظم أنظمة الخليج أنها الأقدر على وقف هذا المد في المنطقة، فاستنادها إلى ملكيات وإمارات تقليدية ومحافظة، يجعلها تحتكر السياسة والاقتصاد والإعلام والحقل الديني، بما يخوّلها تطويقَ امتدادات التحديث في الحياة العامة ومحاصرتها.
لا تكتسي هذه المطالب دلالاتها وأبعادها إلا بربطها ببعضها بعضاً، فمطالبة قطر بقطع علاقاتها مع التنظيمات الإرهابية والطائفية، وتسليم العناصر الإرهابية المطلوبة لدول الحصار، ليست إلا واجهة للمسكوت عنه في قائمة المطالب. تصبح محاربة الإرهاب، في الواقع، ''حصاراً'' لمختلف روافد التغيير الاجتماعي والسياسي في المنطقة. بمعنى أن استدعاء الإرهاب وتعويم معانيه ليس استراتيجيةً بقدر ما هو تكتيك، على اعتبار أن هذه الدول، وفي مقدمتها السعودية، تدرك، في العمق، أن إلصاق تهمة الإرهاب بقطر سيسلط الضوء، من جديد، على قضايا معلومة في هذا الصدد، وأولها قانون جاستا، هذا من دون أن ننسى الكلفة الأخلاقية لزجّ حركات المقاومة والتنظيمات الإرهابية في خانة واحدة.
علاوة على ذلك، فإن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وضخّ مليارات الدولارات في
الاقتصاد الأميركي، والتغيير الذي حصل في أعلى هرم السلطة في الرياض قبل أيام، وقائع تطرح أكثر من سؤال بشأن توقيت هذه المطالب التي كان يُفترض أن تُقدّم فور إعلان الدول الأربع قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة، لا بعد تنصيب الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد.
هل كانت الرياض تنتظر أن تفرغ من ترتيب بيتها الداخلي، حتى تقدم هاته المطالب؟ أليس للأمر صلةٌ بالتضارب الحاصل في الإدارة الأميركية بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية بشأن الموقف من هذه الأزمة؟ لسنا في حاجة للتذكير بالطابع النسقي للقرار السياسي الأميركي على مستوى تعدّد مصادر إعداده وصياغته، وبلورة خطوطه الكبرى، خصوصاً حين يكون للأمر صلةٌ بالشرق الأوسط والخليج، حيث تنبني الاستراتيجية الأميركية على قراءة دقيقة للوقائع والتوازنات، ضمن منظورٍ يراهن على تغذية التناقضات الإقليمية لاستخلاص عوائدها الاقتصادية والاستراتيجية.
ليس مستبعدا أن يكون تقديم هذه المطالب، التعجيزية في معظمها، مقدمةً لتهدئةٍ تجنح إليها الدولُ الأربع، بعد إخفاقها في حشد تأييد إقليمي ودولي كبير، للاستمرار في حصار قطر، خصوصاً بعد إقرار وزير الخارجية الأميركي، تيلرسون، بصعوبة تنفيذ بعضها، واستياء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من طلب إغلاق قاعدة بلاده في قطر، ونزوع معظم البلدان العربية نحو حيادٍ يضمر أكثر مما يظهر، هذا من دون أن ننسى إيران التي ترقب ما يحدث، وتستخلص ما أمكنها من عوائد جرّاء استمرار الأزمة.
يمكن تقسيم مطالب دول الحصار إلى مطالب محورية تشكل عصب هذه الأزمة، وأخرى مغذية لها، بحيث يمكن التفاوض بشأنها على ما يبدو. فمطالبةُ الدوحة بتخفيض التمثيل الدبلوماسي مع إيران، والاقتصار على العلاقات التجارية معها، وإغلاقِ القاعدة التركية ووقف التعاون العسكري مع أنقرة، وإغلاقِ شبكة الجزيرة، كلها مطالبُ تصب في محاولة الوصول إلى مشهدٍ استراتيجي جديد في المنطقة، لا تسعفُ الإمكانات السياسية والعسكرية والاقتصادية للدول الأربع في تنزيله على أرض الواقع، على اعتبار أن ذلك يصطدم بجملة معطياتٍ لا يمكن القفز عليها، أولها إخفاقُ التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن في إخراج إيران من المعادلة اليمنية التي تزداد تعقيداتها السياسية والميدانية. وليس هناك ما يفيد أن الحسم العسكري هناك أضحى قريباً. كما أن تركيا تتجه إلى إعادة ترتيب أولوياتها في الملف السوري بشكلٍ قد يجعلها تقترب من المحور الروسي الإيراني.
هذا يعني أن إيران بصدد كسب جولاتٍ أخرى في حربها الباردة ضد السعودية، جديدها هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في معركة الموصل، والمتغيرات الميدانية المتلاحقة في سورية، ناهيك عن مكاسبها المجانية التي تحصدها من الأزمة الحالية.
من ناحية أخرى، لا يمكن فصل هذه المطالب عن تداعيات الربيع العربي. صحيح أنه لم يزهر في معظم بلدانه، بعد نجاح قوى الثورة المضادة في إجهاض الثورات، والالتفاف على مساراتها السلمية والديمقراطية. لكن، لا يمكن إنكار أنه وضع نقطة نهايةٍ لأحد فصول السلطوية العربية، بمختلف أطيافها الثيوقراطية والطائفية والعسكرتارية.
تدرك هذه السلطوية، جيداً، أن ما حدث قبل ستة أعوام فتح أفقاً فكرياً وثقافياً جديداً في
إذا كانت قوى الثورة المضادة قد نجحت في وقف المد الديمقراطي، وإعاقة التحوّل نحو أنظمة مدنية، فإنه يصعب توقع ما سيحدث في مقبل الأعوام، في ظل إصرار النخب الحاكمة على إعادة إنتاج آليات الاستبداد، واحتكار السلطة والثروة، وحماية قوى الفساد. لذلك، مطالبةُ دول الحصار قطر بقطع علاقاتها مع تنظيم الإخوان المسلمين ووقف دعمها المعارضين، تعني أن هذه الدول تدرك أن وقف عملية التدافع الاجتماعي والسياسي في المنطقة لن يتأتى إلا بالتوقف عن دعم التنظيمات المعارِضة، وبالتالي، تمكين السلطوية العربية من إحكام قبضتها من جديد.
وبحكم تحكمها في موارد بلدانها المالية والسياسية، ترى معظم أنظمة الخليج أنها الأقدر على وقف هذا المد في المنطقة، فاستنادها إلى ملكيات وإمارات تقليدية ومحافظة، يجعلها تحتكر السياسة والاقتصاد والإعلام والحقل الديني، بما يخوّلها تطويقَ امتدادات التحديث في الحياة العامة ومحاصرتها.
لا تكتسي هذه المطالب دلالاتها وأبعادها إلا بربطها ببعضها بعضاً، فمطالبة قطر بقطع علاقاتها مع التنظيمات الإرهابية والطائفية، وتسليم العناصر الإرهابية المطلوبة لدول الحصار، ليست إلا واجهة للمسكوت عنه في قائمة المطالب. تصبح محاربة الإرهاب، في الواقع، ''حصاراً'' لمختلف روافد التغيير الاجتماعي والسياسي في المنطقة. بمعنى أن استدعاء الإرهاب وتعويم معانيه ليس استراتيجيةً بقدر ما هو تكتيك، على اعتبار أن هذه الدول، وفي مقدمتها السعودية، تدرك، في العمق، أن إلصاق تهمة الإرهاب بقطر سيسلط الضوء، من جديد، على قضايا معلومة في هذا الصدد، وأولها قانون جاستا، هذا من دون أن ننسى الكلفة الأخلاقية لزجّ حركات المقاومة والتنظيمات الإرهابية في خانة واحدة.
علاوة على ذلك، فإن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وضخّ مليارات الدولارات في
هل كانت الرياض تنتظر أن تفرغ من ترتيب بيتها الداخلي، حتى تقدم هاته المطالب؟ أليس للأمر صلةٌ بالتضارب الحاصل في الإدارة الأميركية بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية بشأن الموقف من هذه الأزمة؟ لسنا في حاجة للتذكير بالطابع النسقي للقرار السياسي الأميركي على مستوى تعدّد مصادر إعداده وصياغته، وبلورة خطوطه الكبرى، خصوصاً حين يكون للأمر صلةٌ بالشرق الأوسط والخليج، حيث تنبني الاستراتيجية الأميركية على قراءة دقيقة للوقائع والتوازنات، ضمن منظورٍ يراهن على تغذية التناقضات الإقليمية لاستخلاص عوائدها الاقتصادية والاستراتيجية.
ليس مستبعدا أن يكون تقديم هذه المطالب، التعجيزية في معظمها، مقدمةً لتهدئةٍ تجنح إليها الدولُ الأربع، بعد إخفاقها في حشد تأييد إقليمي ودولي كبير، للاستمرار في حصار قطر، خصوصاً بعد إقرار وزير الخارجية الأميركي، تيلرسون، بصعوبة تنفيذ بعضها، واستياء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من طلب إغلاق قاعدة بلاده في قطر، ونزوع معظم البلدان العربية نحو حيادٍ يضمر أكثر مما يظهر، هذا من دون أن ننسى إيران التي ترقب ما يحدث، وتستخلص ما أمكنها من عوائد جرّاء استمرار الأزمة.