28 أكتوبر 2024
مصر في المونديال.. الأزمة ومشاعر الفرح
تأهلت مصر للمشاركة في كأس العالم التي ستنتظم في روسيا الصيف المقبل، نشر الحدث طاقة فرح عمّت البيوت المصرية، خرج مئات الآلاف إلى الشوارع والميادين للاحتفال بفوز المنتخب، حتى ميدان التحرير الذي أمّمته السلطة لصالحها بقعة يُراد أن تبقى مجرد ميدان بلا رمزية، اخترقته الجموع، وفرضت وجودها بلا خوف أو تردد، بينما اكتفت قوات الأمن بنشر عناصرها السرية بجانب حشودها البوليسية التي طوقت الميدان. ويوضح هذا المشهد من الحصار والتوجس أن الميادين ما زالت تشكل للسلطة مصدر خطر، على الرغم من كل التجريف السياسي وسياسة القمع والاحتجاز. تخشى السلطة من احتفال كروي، ربما يتحوّل إلى مظهر احتجاجي. وفي المشهد، تبحث الجماهير المأزومة اقتصادياً واجتماعيا عن الفرح وتجاوز مشاعر الهزيمة، ويفتح الفرح الشوارع المغلقة والمحاصرة، السلوك الجمعي الذي يحتفي بنصر كروي يتجاوز الحشود الأمنية في ميدان التحرير، كما يكسر حظر التجوال في العريش ليحتفي بالفوز.
يعيد هذا المشهد الكرنفالي صورة الحشود إلى الميادين، ويعيد الإحساس بالنصر مقابلا للهزيمة. تمثل ثنائية الفرح والغضب جسراً لعبور حدود الصمت إلى التعبير، والفرح تحديدا يحرك الجمهور من الكمون والانكماش إلى الانبساط فى مساحات أرحب. ويدرك المتابع للمجتمع المصري أن الحراك لا يغيب مهما قيدته قوى القهر، و يدرك انه أمام مجتمع حي، مهما حاولت بنى السلطة تقييد حركته. يشير المصريون إلى الفرح بكلمة "الانبساط"، وكأن الفرح مرادف للحرية أو أحد مكوناتها، وأنه فعل مضاد ومناقض للقيود.
وكما أن مشاعر الفرح تحرك الجمهور إلى الشوارع، فإن مشاعر الغضب تحركهم أيضا في مشاهد أخرى، منها مظاهرة أهالي البحر الأحمر ضد حمّى الضنك التي تمثل خطراً قد يتحول إلى مأساة إن لم تتم محاصرته. هنا يحتج الأهالي غضبا، ويرفعون في تظاهراتهم مطالب بحصار المرض. يطالب الأهالى بدفع مخاطر محدقة، بينما يطالب حاملو شهادات الماجستير والدكتوراة بالحق في التشغيل، وهو حراك غاضب يهدف إلى انتزاع أحد الحقوق.
ليست هذه المشاهد الثلاثة منفصلة، فبينهم خط واصل، عنوانه التعبير الجماعي عن الوجود والفاعلية وانتزاع الحقوق ومحاصرة الحصار، ومواجهة مخاطر نفي السلطة الجموع أو ظلمها. وغالبا ترتبط الحشود الغاضبة والفرحة بقضية أو مشاعر مشتركة، تهدف من التجمع إلى إعلان موقفها والتعبير عن مشاعرها. ويمثل الاحتشاد عملية إشباع نفسي وعاطفي في حد ذاتها، ناهيك عن أنها في حالات التمرّد والثورة تمثل حالة خروج على سلطة الضبط.
في الكرنفالات المصرية يظهر السلوك الاجتماعي الارتجالي المفعم بالمشاعر. أما في الثورة أو الحركة الاجتماعية، فتتجمع المشاعر بجانب المطالب، وينظم السلوك الجماعي العفوي، فيتحول إلى حركة اجتماعية لها، بجانب المشاعر التي تحرّك الحشود مطالب وقضايا، ولها أيضا شعارات ورايات وقادة اجتماعيون.
لعبت مشاعر الانتماء أو الحاجة للشعور بالانتماء دورًا محورياً في تشكل المشهد الكرنفالي الذي يحتفي بمنتخب كرة القدم. وتحمل مشاعر الانتماء، في مضمونها، رغبة في مواجهة الاستبعاد من المشاركة فيما يتخذ من قرارات، كما أن الخروج إلى الشوارع هو شكل من التعبير ضد الاستلاب والاغتراب الذي ينكسر بالحالة الجماعية للحشود التي تحمل مشاعر مشتركة. وهنا يبرز مشهد الاحتشاد الفرح بالميادين والشوارع آلية مقاومة للاستبداد الذي يستخدم آليات القهر والضبط وحصار الأجساد والشوارع.
على جانب آخر، يبدّد نصر المنتخب مشاعر الهزيمة الفردية والجماعية، ويمثل الحراك الجماعي، وإن كان احتفالا بالفوز مقاومة لمشاعر الانسحاب من المجال العام، كما يحمل الاحتفاء نوعا من التفاعل الجماعي لتجاوز أسوار التشظى الذي يمر به أفراد المجتمع المأزوم، والاحتفاء كسلوك جماعي يشعر الجماهير بقوة ذاتها التي تواجه مشاعر الضعف لكل فرد من أفرادها.
مثّل فرح المصريين بمنتخب بلادهم والاحتفاء به معاني وتعبيرات اجتماعية ونفسية عديدة، فهو اجتماعيا يجسد صورة للوجود والفاعلية. وعلى المستوى الفردي، يشبع الرغبة في تجاوز مشاعر الحزن والوحدة عبر الاجتماع والالتحام البشري. والاحتفاء أيضا سلوك اجتماعي
ونفسي يتجاوز مشاعر الانكسار والهزيمة، كما تعمل مشاعر النصر على لحم المجتمع، وتساهم في تماسكه اجتماعيا، كما تساهم مشاعر الفرح والنصر والإنجاز الفردي في تماسك أرواح الأفراد، ومواجهة مشاعر الإحباط.
استنكر بعض من معارضي النظام مظاهر احتفاء المصريين بمنتخبهم. وفي تقديري، لا يتأمل هذا الموقف سيكولوجياً الجمهور، ولا يتفهم أبعاد الاحتفاء ومظاهره، ووظيفته، وحاجة المصريين للفرح. وقد تمنى بعض هؤلاء، للأسف بجانب الاستنكار، ألا يصعد المنتخب إلى منافسات كأس العالم، حتى لا يحسب الفوز للنظام. وتقديري أن هذه التصورات القاصرة تقترب من العمى، وبعيدة عن الروح الجماعية للجمهور المتنوع، والذي لا يرى قطاع منه تناقضا بين تشجيع المنتخب ومعارضة النظام، وإن فوز المنتخب لا يغير من طبيعة النظام في شيء، ولا يضيف له جمهورا يؤيده.
وعلى الرغم من أن كل الأنظمة تحاول الاستفادة من أي منجز، وتحاول استغلاله لصالحها، إلا أن هذا لا يعنى أن يستنكر بعضهم فرح الجمهور بمنتخبهم، كما أنه من المراهقة السياسية تصور أن كرة القدم "أفيون للشعوب"، أو ملهاة عن أزمات الوطن، بل على العكس يمثل الاحتفاء بالنسبة للجمهور أداة لإيجاد مواقف جماعية وكسر الحصار عن الشوارع، ورغبة لتجاوز الإحباط والهزائم المتكرّرة، كما يحمل أيضا "المنتخب" بالنسبة للجمهور رمزا للوطن وللفعل البطولي، ويحمل رمزية مقاومة ضد الهزائم، وبشرى أمل أسعدت المصريين، وساعدتهم، ولو بعض الوقت، في تجاوز مشاعر الإحباط والهزيمة. لذا هم يحتفون بمن أسعدهم، أما أن يتمنى بعض المصريين هزيمة المنتخب طريقة لهزيمة النظام، فتلك مراهقة سياسية، لا تعرف سوى معاني الثأر الذي تجاوزتها الشعوب بحكم التجارب والخبرات، وهو منطق جاهل بآليات النضال والفعل السياسي من أجل دولة ومجتمع عادل وديمقراطي، يقبل الاختلاف والتنوع، ويحترم كرامة الإنسان، وحقه في التعبير عن مشاعره.
يعيد هذا المشهد الكرنفالي صورة الحشود إلى الميادين، ويعيد الإحساس بالنصر مقابلا للهزيمة. تمثل ثنائية الفرح والغضب جسراً لعبور حدود الصمت إلى التعبير، والفرح تحديدا يحرك الجمهور من الكمون والانكماش إلى الانبساط فى مساحات أرحب. ويدرك المتابع للمجتمع المصري أن الحراك لا يغيب مهما قيدته قوى القهر، و يدرك انه أمام مجتمع حي، مهما حاولت بنى السلطة تقييد حركته. يشير المصريون إلى الفرح بكلمة "الانبساط"، وكأن الفرح مرادف للحرية أو أحد مكوناتها، وأنه فعل مضاد ومناقض للقيود.
وكما أن مشاعر الفرح تحرك الجمهور إلى الشوارع، فإن مشاعر الغضب تحركهم أيضا في مشاهد أخرى، منها مظاهرة أهالي البحر الأحمر ضد حمّى الضنك التي تمثل خطراً قد يتحول إلى مأساة إن لم تتم محاصرته. هنا يحتج الأهالي غضبا، ويرفعون في تظاهراتهم مطالب بحصار المرض. يطالب الأهالى بدفع مخاطر محدقة، بينما يطالب حاملو شهادات الماجستير والدكتوراة بالحق في التشغيل، وهو حراك غاضب يهدف إلى انتزاع أحد الحقوق.
ليست هذه المشاهد الثلاثة منفصلة، فبينهم خط واصل، عنوانه التعبير الجماعي عن الوجود والفاعلية وانتزاع الحقوق ومحاصرة الحصار، ومواجهة مخاطر نفي السلطة الجموع أو ظلمها. وغالبا ترتبط الحشود الغاضبة والفرحة بقضية أو مشاعر مشتركة، تهدف من التجمع إلى إعلان موقفها والتعبير عن مشاعرها. ويمثل الاحتشاد عملية إشباع نفسي وعاطفي في حد ذاتها، ناهيك عن أنها في حالات التمرّد والثورة تمثل حالة خروج على سلطة الضبط.
في الكرنفالات المصرية يظهر السلوك الاجتماعي الارتجالي المفعم بالمشاعر. أما في الثورة أو الحركة الاجتماعية، فتتجمع المشاعر بجانب المطالب، وينظم السلوك الجماعي العفوي، فيتحول إلى حركة اجتماعية لها، بجانب المشاعر التي تحرّك الحشود مطالب وقضايا، ولها أيضا شعارات ورايات وقادة اجتماعيون.
لعبت مشاعر الانتماء أو الحاجة للشعور بالانتماء دورًا محورياً في تشكل المشهد الكرنفالي الذي يحتفي بمنتخب كرة القدم. وتحمل مشاعر الانتماء، في مضمونها، رغبة في مواجهة الاستبعاد من المشاركة فيما يتخذ من قرارات، كما أن الخروج إلى الشوارع هو شكل من التعبير ضد الاستلاب والاغتراب الذي ينكسر بالحالة الجماعية للحشود التي تحمل مشاعر مشتركة. وهنا يبرز مشهد الاحتشاد الفرح بالميادين والشوارع آلية مقاومة للاستبداد الذي يستخدم آليات القهر والضبط وحصار الأجساد والشوارع.
على جانب آخر، يبدّد نصر المنتخب مشاعر الهزيمة الفردية والجماعية، ويمثل الحراك الجماعي، وإن كان احتفالا بالفوز مقاومة لمشاعر الانسحاب من المجال العام، كما يحمل الاحتفاء نوعا من التفاعل الجماعي لتجاوز أسوار التشظى الذي يمر به أفراد المجتمع المأزوم، والاحتفاء كسلوك جماعي يشعر الجماهير بقوة ذاتها التي تواجه مشاعر الضعف لكل فرد من أفرادها.
مثّل فرح المصريين بمنتخب بلادهم والاحتفاء به معاني وتعبيرات اجتماعية ونفسية عديدة، فهو اجتماعيا يجسد صورة للوجود والفاعلية. وعلى المستوى الفردي، يشبع الرغبة في تجاوز مشاعر الحزن والوحدة عبر الاجتماع والالتحام البشري. والاحتفاء أيضا سلوك اجتماعي
استنكر بعض من معارضي النظام مظاهر احتفاء المصريين بمنتخبهم. وفي تقديري، لا يتأمل هذا الموقف سيكولوجياً الجمهور، ولا يتفهم أبعاد الاحتفاء ومظاهره، ووظيفته، وحاجة المصريين للفرح. وقد تمنى بعض هؤلاء، للأسف بجانب الاستنكار، ألا يصعد المنتخب إلى منافسات كأس العالم، حتى لا يحسب الفوز للنظام. وتقديري أن هذه التصورات القاصرة تقترب من العمى، وبعيدة عن الروح الجماعية للجمهور المتنوع، والذي لا يرى قطاع منه تناقضا بين تشجيع المنتخب ومعارضة النظام، وإن فوز المنتخب لا يغير من طبيعة النظام في شيء، ولا يضيف له جمهورا يؤيده.
وعلى الرغم من أن كل الأنظمة تحاول الاستفادة من أي منجز، وتحاول استغلاله لصالحها، إلا أن هذا لا يعنى أن يستنكر بعضهم فرح الجمهور بمنتخبهم، كما أنه من المراهقة السياسية تصور أن كرة القدم "أفيون للشعوب"، أو ملهاة عن أزمات الوطن، بل على العكس يمثل الاحتفاء بالنسبة للجمهور أداة لإيجاد مواقف جماعية وكسر الحصار عن الشوارع، ورغبة لتجاوز الإحباط والهزائم المتكرّرة، كما يحمل أيضا "المنتخب" بالنسبة للجمهور رمزا للوطن وللفعل البطولي، ويحمل رمزية مقاومة ضد الهزائم، وبشرى أمل أسعدت المصريين، وساعدتهم، ولو بعض الوقت، في تجاوز مشاعر الإحباط والهزيمة. لذا هم يحتفون بمن أسعدهم، أما أن يتمنى بعض المصريين هزيمة المنتخب طريقة لهزيمة النظام، فتلك مراهقة سياسية، لا تعرف سوى معاني الثأر الذي تجاوزتها الشعوب بحكم التجارب والخبرات، وهو منطق جاهل بآليات النضال والفعل السياسي من أجل دولة ومجتمع عادل وديمقراطي، يقبل الاختلاف والتنوع، ويحترم كرامة الإنسان، وحقه في التعبير عن مشاعره.