مصر .. ذاكرةٌ مثقوبة ونُخبٌ تائهة

15 يوليو 2018
+ الخط -
كم هو مُحزنٌ أن تقفَ أكبرُ دولة عربيّة، تاريخاً وشعباً وأملاً وقدراتٍ حيّةً، عند بوّابة الزمن تصارعُ للتشبّث بالمستقبل، بينما يجرّها العسكرُ والفاسدون من خلفهم للعودة إلى الوراء، والغوص في مُستنقعات الجهل والتخلّف والتصحّر.
تختصرُ المشهد صورة "الدّكر" (كما يحلو للعوالم وقارعي الطبول تسميته)، وهو يلقّن رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، صيغة القسم بعدم إلحاق الضرر بمصر. ويحلفُ الأخيرُ ضاحكاً علانية من طرافة الموقف أمام الصحافة، وفي سريرته من هذه التُحفة التي منحها الله لخصوم مصر وأعدائها.
ما كان ليخطرَ في بال أبي التاريخ هيرودوتس عندما قال إن "مصر هبة النيل" أنّه سيأتي يومٌ ويُهدي العسكرُ ما وهبه الله لشعب مصر العظيم، باني الحضارات، ومجترح المعجزات، لجيرانها، من دون مقابل سوى التربّع على عرش الحكم بلا استحقاق وبلا مشروعيّة أو شرعيّة. فهل كان هذا حلمُ ائتلاف شباب الثورة؟ من هذا الألم، يحقّ السؤال: أين شباب الثورة وقادة الحراك الثوري في الساحات والميادين، وعبر صفحات التواصل الاجتماعي، هل تبخّروا أم ماذا حلّ بهم؟

لا تختصر الإجابة على هذه التساؤلات بالحرب الشعواء التي شنّها العسكر على الثورات، وشاركتهم فيها تيّارات دينيّة، وأخرى علمانيّة، وقوى رأس المال المتضرر من تغيير الأوضاع، بما يكسر امتيازاتها فيما باتت تُعرف بقوى الثورة المضادّة، بل لا بدّ من تبيان أوجه القصور في هذه الحركات الثوريّة، سواءٌ بسبب طبيعتها وتكويناتها الذاتيّة، أم بسبب برامجها التي سارت عليها.
تدلّ تسميات الهيئات والتشكيلات الثوريّة على جوهرها، بشكل أو بآخر، كما تدلّ على البنية التنظيميّة الرخوة التي حكمت مسارات عملها وفعلها منذ نشأتها، وحتى تبخّرها أو ذوبانها في غيرها من التشكيلات الحزبية، أو اعتكاف أفرادها العمل الثوري. وقد بدأت كلّ التسميات بكلمات "حركة أو ائتلاف أو شباب..". وهذا يدلّ على عفويّتها وبساطتها وسرعة تشكّلها من جهة، كما يدلّ على توافق أعضائها على القواسم المشتركة بالحدود العليا الممكنة التي تسمح لهم بالعمل مع بعضهم بعضا لتحقيق مطالب مرحليّة لا أكثر.
لقد طرح ائتلاف شباب الثورة في مصر نقاطا كثيرة في برنامجهم الثوري، وهو برنامجٌ يشير إلى مروحة واسعة من المطالب، بعضها متعلّق بالمرحلة السابقة على الثورة، وبعضها من استحقاقاتها المباشرة. وكان الغائب الأكبر عن هذه القائمة تحديد آليّات تحقيقها ودور الشباب أنفسهم في ذلك. ولا شكّ في أن البنى العميقة للاستبداد لا يمكن أن تجلوها ثوراتٌ قصيرة العمر كالثورة المصريّة، ما لم تتعزّز آليات التغيير السياسي والقانوني والإداري بالدرجة الأولى، لتخلق مراكز قوى جديدة، تدعم ضرورة الانتقال من نظام فردي أو أقلّوي إلى نظام جماعيّ تشاركيّ، وتنقلها من ساحات التظاهر وميادينه إلى ساحات التطبيق العملي من خلال مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة.
لقد شهدنا انكفاءً لجهاز أمن الدولة، ريثما تهدأ موجة الغضب الشعبي العارمة، كما شهدنا انحساراً لجهاز الشرطة الذي بات محلّ اتهام المواطنين بالعبث بحريّاتهم وكراماتهم، لكنّ ذلك كلّه لم يدم ولم يتعزّز، لأنه لم يتم تغيير أسس عمل هذه الأجهزة القمعيّة، المبنّية أساساً على فكرة القمع العاري، وانتهاك حقوق الإنسان، والتي لم تكن تعمل في أيّ يوم تحت إطار القانون والرقابة والمحاسبة.
كذلك كان جهاز القضاء من أشدّ خصوم حركات الشباب الثوريّة، فقد دأب أزلام النظام من القضاة، أمثال المستشار ناجي شحاتة، على التنكيل بالثوّار والمعارضين والصحفيين، من خلال إساءة استخدام القوانين والسلطات الاستنسابيّة الواسعة التي جيرتها هذه المؤسسة، بعد أن فقدت كلّ حياد واستقلال عن نظام الحكم العسكري، لصالح تأبيده وتكريس استبداده.
من يعرف الامتيازات التي يتمتّع بها القضاة وضبّاط الجيش وضبّاط جهاز الأمن الوطني الذي كان اسمه مباحث أمن الدولة في مصر، من حيث السلطات الواسعة في التصرّف وتوريث المناصب لأبنائهم، والمقدّرات المالية الكبرى بين أيديهم وإمكانية تجاوز القوانين والعقبات، وتخطّي الحدود المطبّقة على بقيّة فئات الشعب، يعرف سبب الاستبسال في الدفاع عن نظام الحكم، والوقوف في وجه الثورات التي كان من شأنها لو نجحت أن تنزع عنهم هالة القداسة التي لا يستحقونها أبداً.
يقول إبراهيم البليهي: "يعمل العقل البشري انطلاقا من منظومة التصورات التي يعتادها، ويتبرمج بها، حيث يتم تطويع المعلومات طبقا للتصورات التي تَطَبَّع بها الذهن، فالعقل لا يصير عقلا فرديًّا فارقا، إلا إذا أصبح فاعلية نقدية يفحص ويتبصَّر ويغربل".
كذلك الثورات، تعمل وفق تصوّرات عموميّة غالباً، لأنها تعتمد مبدأ تحريك القاع والرواسب وقلب الأوضاع، لكنّها تقف عند هذا الحدّ، فليس في الوسع القيام بأكثر من ذلك، فهي لا تصبح ذات قدرات فارقة، إلّا إذا استطاعت أن تتمركز في مفاصل الدولة، وأن تكنس عفن الفساد والاستبداد، لكي تتمكّن من صناعة التغيير، لكنّ هذا ليس متاحاً للقوى الثوريّة الشبابيّة بطبيعة الحال، لأنّها ببساطة عادة ما تكون خارج مراكز صنع القرار، وتوجيه أجهزة الدولة، ويفترض أن تكون هذه الأمور من مهام التنظيمات الحزبيّة، والمؤسسات المجتمعيّة الأخرى، مثل النقابات واتحادات العمّال، وحتى نوادي الموظفين، لأنها قادرة على التواصل معهم، كلّ في مجال
عمله.
لم يقتصر الفشل الذي حاق بالثورة المصريّة، ومنعها من إتمام عمليّة التغيير، عليها وحدها، بل كان ملازماً لجميع ثورات الربيع العربي، بدءاً من تونس ومروراً بليبيا واليمن ووصولاً إلى سورية، مع اختلاف المستويات والنتائج والسياقات العامّة لتطوّر كل وضع، وفق خصوصياته وظروفه المحيطة به. ولا يسم هذا الفشل القوى الثوريّة الشابّة وحدها، بل يشمل كلّ قوى المجتمع التي لم تبادر إلى التحرّك والاستفادة من اللحظة التاريخية المناسبة، للقطع مع إرث الاستبداد والفساد.
سيكون علينا مع ذلك أن ننتظر الموجات الارتداديّة القادمة من الثورات، لأنّ منطق الأمور يقول بقدومها لا محالة، فالأسباب التي كانت وراء اندلاع ثورات الربيع العربي ما زالت شاخصة، بل يزداد تجذّرها واستعصاؤها يوماً بعد يوم. فهل تستطيع المراكمة أن تغيّر من حظوظ الثورات العاثرة، هل تستطيع أن تعيد صياغة النخب المجتمعيّة التائهة وتشكيلها؟ أسئلة كثيرة تنتظر الزمن للإجابة عليها.
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود