ويمثل المشروع، المتداول حالياً في الدوائر القضائية، اعتداءً غير مسبوق على سلطة محكمة النقض في نظر جميع الطعون على الأحكام الجنائية. الوضع القائم حالياً هو إتاحة فرصتين للطعن أمام المدانين في قضايا الجنايات، فبعد أن تصدر محكمة الجنايات أول حكم يجوز للمدان أن يطعن أمام محكمة النقض ويجوز للنيابة العامة الطعن أمام النقض أيضاً على أحكام البراءة أو العقوبات المخففة، ثم تملك محكمة النقض خياراً من ثلاثة؛ إما أن تؤيد الحكم بالكامل أو تؤيده موضوعاً وتعدل العقوبة أو تعيد القضية لدائرة أخرى بمحكمة الجنايات لإعادة المحاكمة. وهذا الأمر الأخير هو ما يحدث في نحو 90 في المائة من القضايا الجنائية في مصر، وبصفة خاصة ما توصف بقضايا "الإرهاب"، نظراً لضعف تسبيب أحكامها وضخامة عدد المتهمين في كل قضية.
وبعد إعادة المحاكمة في دائرة جنايات أخرى يجوز للمدان أو النيابة الطعن مرة ثانية أمام محكمة النقض، وهنا تملك المحكمة خياراً من اثنين؛ إما أن تؤيد الحكم أو تنقضه وتتولى بنفسها محاكمة المتهمين موضوعياً، وتصدر عنها في الحالتين أحكام باتة لا يمكن الطعن عليها.
لكن المشروع الجديد يهدر على المتقاضين فرصة الطعن الأولى أمام محكمة النقض، إذ يقوم على تخصيص دوائر استئنافية بكل محكمة جنايات، وعندما يصدر أول حكم يستأنف المدان أو النيابة عليه أمام الدائرة الاستئنافية وليس أمام محكمة النقض، وتحدد الدائرة الاستئنافية ما إذا كان الحكم صحيحاً فتؤيده، أو أن يكون في الحكم فيه عوار فتعيده هي بنفسها لدائرة أخرى بمحكمة الجنايات لإعادة المحاكمة.
ولا يسمح، وفق المشروع الجديد، للمدانين أو النيابة العامة بالطعن أمام محكمة النقض إلّا بعد إعادة المحاكمة. وهو ما يعني أن محكمة النقض لن تتصل بأي قضية أكثر من مرة واحدة فقط، على عكس النظام القضائي المصري المتبع منذ تأسيس هذه المحكمة عام 1931.
وتكشف مصادر قضائية وحكومية في وزارة العدل، في حديثها إلى "العربي الجديد"، عن أن "المشروع يهدف في الأساس لإنهاء القضايا الجنائية الخاصة بقيادات جماعة الإخوان بسرعة"، مستشهدة بالتأخير الشديد في إصدار محكمة النقض أحكامها في الطعون الأولى بقضايا مختلفة كـ"اقتحام السجون، والتخابر مع حماس، والتخابر مع قطر" المتهم فيها جميعاً الرئيس المعزول محمد مرسي ومعظم قيادات الصف الأول في الإخوان.
وتقول المصادر إن هناك ضغوطاً يمارسها النظام السياسي، ممثلاً في الدائرة المحيطة بالرئيس عبدالفتاح السيسي، على القضاء بصفة مستمرة، وتحميل القضاء مسؤولية ما يصفه بعض المسؤولين بـ"انتشار العمليات الإرهابية" بحجة التأخر في إصدار الأحكام الرادعة، وهو ذاته فحوى الكلام الذي حدّث به السيسي كبار القضاة ووزير العدل السابق أحمد الزند في جنازة النائب العام الراحل هشام بركات الذي اغتيل في 29 يونيو/ حزيران من العام الماضي.
في غضون ذلك، ترفض مصادر قضائية أخرى بمحكمة النقض هذا المشروع، كاشفة عن وجود اتصالات "غير رسمية" بين وزارة العدل وعدد من رؤساء أندية القضاة المقربين من الزند بعدد من أعضاء مجلس القضاء الأعلى لإقناعهم بضرورة تمرير هذا المشروع إذا وافقت عليه الحكومة بشكل نهائي. علماً بأن موافقة مجلس القضاء الأعلى ضرورية على تعديلات القوانين التي تمس العمل القضائي.
وتؤكد مصادر محكمة النقض أن "مناقشة وزارة العدل لمثل هذه المقترحات تأتي في سياق الضغط على محكمة النقض لحثّها على الإسراع في الحكم في قضايا الإخوان". وتوضح المصادر أن رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق، المستشار أحمد جمال الدين، اعترض على عدد من المقترحات المشابهة كجواز الاستغناء عن سماع الشهود، وإلزام محكمة النقض بالفصل في الطعون موضوعياً من أول مرة وبالتالي إهدار فرصة الطعن الثانية على المتقاضين.
وتقول المصادر نفسها إن ما شجع أصحاب المشروع الجديد على مناقشته هو صدور قانون خلال العام الحالي يستحدث دوائر استئنافية جديدة لنظر طعون الجنح (نوع الجريمة الأدنى من الجناية) والفصل فيها من دون العرض على محكمة النقض. وتلفت إلى أنه يوجد فارق جوهري بين كلا الأمرين؛ وهو أن معظم أحكام الجنح يتم تأييدها من محكمة الجنح المستأنفة وأن وصولها للدوائر الاستئنافية الجديدة يكون كدرجة طعن ثانية ولا يحدث في معظم القضايا، على عكس الوضع بالنسبة للجنايات، فإلغاء إمكانية الطعن بالنقض على أول حكم يحرم المتهم من حقه الطبيعي المقرر دستورياً، كما أنه يسلط دائرة قضائية على دائرة أخرى مكافئة لها في ذات المحكمة.
وتشير المصادر إلى أن وزارة العدل تعمل بجهد حالياً لتمرير المقترح مقترناً بتعديلين آخرين؛ الأول يجيز لوكيل المتهم (محاميه) أن يتخذ إجراءات إعادة نظر الدعاوى في الأحكام الغيابية الصادرة ضده من محاكم الجنايات، حتى تقضي المحكمة بالإدانة أو البراءة، والثاني ينص على إجراء محاكمة حضورية للمتهم الغائب أو الهارب بمجرد حضور محام عنه أول جلسة بتوكيل خاص يتضمن الموافقة على نظر الدعوى، حتى إذا لم يتم إعلان المتهم في موطنه، وحتى إذا غاب هو ومحاميه عن الحضور في الجلسات التالية، وأن تنتدب للمتهم الغائب محامياً للدفاع عنه.
وتوضح المصادر أن التعديلين الآخرين وافق عليهما بالفعل قسم التشريع في مجلس الدولة، وأنهما يسمحان بإسقاط الاتهامات الغيابية بحق رجال الأعمال ورموز نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك من دون أن يضطروا للعودة لمصر، وذلك بالاكتفاء بمثول المحامين عنهم أمام المحكمة.
وأصدر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي العام الماضي قانونين؛ يسمح الأول بالتصالح مع رجال الأعمال والمستثمرين المدانين في قضايا فساد بمختلف أنواعها بواسطة لجنة حكومية قضائية إذا تم رد المبالغ المشتبه في استيلائهم عليها. أما الثاني فيتيح تسوية قضايا الكسب غير المشروع في جميع مراحل التقاضي مقابل دفع المال المتحصل عليه من الجريمة فقط أو بغرامة إضافية حسب مرحلة التسوية.