14 نوفمبر 2024
مصر.. الخطاب الاقتصادي يكذب ويتجمّل
يلجأ الخطاب المصري الرسمي، في مراحل الإصلاح الاقتصادي، إلى إغراق المواطنين في دوامة الأرقام، وإظهار بعضها وإخفاء آخر أو تجاهله، وهذا سلوك خداعي بامتياز، غرضه تجميل صورة الطبقة الحاكمة، وإخفاء واقع المواطنين وأزمة الاقتصاد. إنه إحدى سمات الخطاب الاقتصادي البائس، والمنتج للبؤس أيضاً، ليس في مصر وحدها، فهو نمط عام من الخطاب الذي يهدف إلى إيهام المجتمع بتحسّن لم يلحظه، خصوصا حين يتم التطرّق إلى خطط الموازنة، أو الدعاية بشكل عام حول إنجازات النظام. أعلن وزير المالية المصري، محمد معيط، أمام البرلمان، أخيرا، البيان المالي للموازنة الجديدة 2019-2020. وعرضت وزيرة التخطيط، هالة السعيد، خطة التنمية. دار خطابا الوزيرين في فلك منظومة الإصلاح الاقتصادي، والتي طبقت بشكل متسارع منذ توقيع مصر اتفاقا مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، بموجبه تم إقراض مصر 12 مليار دولار على دفعات، شرط تنفيذ خطة إصلاح اقتصادي، ركّزت على بنودٍ للإصلاح المالي، وتجاهلت خلل بنية الاقتصاد المأزوم، غير المنتج، وما يترتب عليه من ضعف الموارد المالية، وشح فرص التشغيل، بما لا يتناسب مع قوة العمل، وضروريات التنمية.
انطلق الخطابان من رؤية عمّقت أزمة الاقتصاد عقودا، ومن خطة للإصلاح الاقتصادي طبقتها حكومات حسني مبارك من قبل، يتم استكمالها بشكلٍ أشد قسوة، ويتحمل أعباءها بشكل أساسي الفقراء والمنتجون، فمن خلال شعارات تصحيح الاختلالات المالية، تم تحرير سعر الصرف، ما خلّف نتائج كارثية على القوة الشرائية للمصريين، وقلّص مدخراتهم، وأثر سلبا على عمليات الإنتاج، نظرا لاعتماد أنشطة كثيرة لها على مداخلاتٍ صناعية مستوردة.
ركزت إجراءات الحكومة على فرض الضرائب، وتقليل الدعم، والتوسع في الاستدانة، لتوفير
سيولةٍ ماليةٍ تساعد النظام على الاستمرار. تخطى الدين الخارجي 96.6 مليار دولار في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2018، وارتفعت الضرائب منذ 2016، بينها زيادة ضريبة القيمة المضافة، والضرائب المحصلة على الخدمات. وكلتاهما، الضرائب والديون، مرشحة للزيادة. وحسب خطط وزارة المالية في مشروع الموازنة الجديدة، ستفرض الحكومة ضرائب على المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، بينما أجلت ضريبة الأرباح الرأسمالية، لتحمي أموال كبار المستثمرين، بوصفهم مكونا أصيلا في التحالف الاجتماعي الحاكم الذي يشرّع ويقر سياساتٍ تحافظ على مكاسبه، بل تراكم مزيدا من الثروات، ليتضح لمن تنحاز السياسات الاقتصادية، ومن يدفع الثمن.
تشابه الخطابان الصادران من وزارتي التخطيط والمالية، في مقولاتهما الدعائية، والتي ازدحمت بعباراتٍ فضفاضة، وكليشهية، كالتركيز على التنمية البشرية، والاهتمام بمحدودي الدخل، ورعاية الفئات الأكثر احتياجا، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية، وإصلاح منظومتي التعليم والصحة، بالإضافة إلى وعود بتساقط ثمار الإصلاح الاقتصادي على المواطنين، هذا الوهم الذي زرعته نخب الاقتصاد المساندة للسلطوية في أردأ ثوب لها، وهو تجاور الاستبداد مع سياسات النهب والإفقار، وتراجع دور الدولة الاجتماعي.
تتجاهل الحكومة ارتفاع معدلات الفقر (تجاوزت 60%)، بل وتطالب جهات سيادية بتعديل المقاييس المستخدمة، لأن نسبة الفقر لا تتوافق مع إنجازات الدولة. كيف نصدق أن الأوضاع الاقتصادية تحسنت، أو ستتحسن، في ظل وعود متكرّرة بشأن انخفاض نسب البطالة وارتفاع الأسعار، بينما كلاهما في ارتفاع.
لا تحسن يلمح مع استمرار تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي لعام مقبل، بل ستتعمق الأزمة الاقتصادية، بما تحمله من مخططات زيادات أسعار الطاقة، وتخفيض مختلف أوجه الدعم، والاستمرار في الاستدانة، وتحميل المواطنين أعباء ذلك. بناءً على ذلك، سيواجه الاقتصاد المصري عدة تحديات، لعل من أبرزها معالجة خلل الموازنة المتعلق بضعف الإيرادات المالية بتوسيع القاعدة الضريبية، بطرق مختلفة، منها فرض ضرائب على المنشآت الاستثمارية الصغيرة ومتناهية الصغر، ما يعنى أن شرائح من المنتجين من الطبقة الوسطى ستتضرّر، كما ستؤثر الضرائب على أجور العاملين، وفرص التشغيل، على الرغم من أن الحكومة تهدف إلى
خفض معدلات البطالة إلى 9%، والذي يعد تناقضا في الطرح، بينما كان المفترض أن يشجع صغار المنتجين على توسيع أنشطتهم. وتستهدف الحكومة خفض عجز الموازنة إلى 7.2% من الناتج المحلي الإجمالي، وتحقيق فائض 2%. ويمكن تفسير ذلك من خلال إشارات البيان إلى إعادة ترتيب أولويات الإنفاق العام وخفض الدعم، وهو ما ينطبق على دعم السلع الغذائية والكهرباء وغيرها، والتي شهدت انخفاضا، حسب بيانات حكومية. وستسعى وزارة المالية إلى إصدار تشريعات اقتصادية، تسهل "المشاركة بين القطاعين، العام والخاص"، ما يعني تعميق البنية التشريعية المرتبطة بدعم بعض المستثمرين عبر مشاركتهم في أنشطة حكومية، أو نقل بعض أصول الدولة إليهم. وقد ناقش البرلمان فعليا أخيرا تعديلاتٍ قانونية تسمح بغلق ملفات الشركات التي حكم ببطلان بيعها للمستثمرين بعد الثورة، عن طريق تسوية أوضاعها وإنهاء المنازعات بشأنها في مقابل تحصيل الحكومة تعويضاتٍ من المستثمرين.
من جانب آخر، تدّعي وزارة المالية أنها تطرح موازنتها للحوار المجتمعي، لتعريف المواطنين المصريين بالسياسات المالية وخطط الإصلاح، إلا أن ذلك لا يتعدى مساحة الدعاية، فلا حوار بين حكومة ومواطنين فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية أو غيرها، فكل مسارات الحوار أغلقت، وأدوات الطبقات الاجتماعية في تعديل سياسات الحكومة ونقدها، أو التفاوض بشأنها، سلبت، فلا إمكانات لتنظيم مؤتمرات عامة، أو طرح آراء ناقدة في وسائل الإعلام. وبالطبع، لا مساحات للحراك الاحتجاجي المعارض للسياسات الاقتصادية ونتائجها.
وينطبق هذا السمت الدعائي ولغة الإيهام على خطة التنمية المطروحة من وزارة التخطيط، والتي انطلقت من إنجازات اقتصادية، حققتها الحكومة خلال أربع سنوات، مستعرضة معدلات النمو التي تخطت 5%، وانخفاض معدل التضخم إلى 13,8%، وتنامي النقد الأجنبي إلى 44,1 مليار دولار، لكن هذه الأرقام والمؤشرات تفقد قيمتها طالما انتزعت عن سياقها، وانفصلت عن باقي المؤشرات الأخرى، فإنها تبقى كذبا، كمن يقول نصف الحقيقة ويدّعي الصدق، فزيادة احتياطي النقد مردّه الاقتراض المستمر والمتصاعد، متعدّد المصادر، غير محسوب العواقب، والذي يكلف الموازنة فوائد تلتهمها (36% من مصروفات الموازنة)، إلى جانب تحسن عوائد النقد الأجنبي من العاملين في الخارج، بعد تحرير سعر الصرف. أما
ارتفاع نسب النمو فليس دليلاً على تحسن أحوال الاقتصاد، وليس بالضرورة يحسن أحوال المواطنين، فقد تذهب عوائده إلى فئات محدودة، بالإضافة إلى أن ارتفاع نسب النمو يرجع إلى الاعتماد على القطاعات والمشروعات سريعة النمو، كالاتصالات والإنشاءات، وأنشطة التعدين. .. إذن، معدلات النمو مقياس زائف، فما زالت معدلات ارتفاع الأسعار بالنسبة للأجور مرتفعة، وما زالت نسب البطالة الرسمية مقلقة أيضاً، مع التحفظ على طرق قياسها.
ليس خطاب المجموعة الاقتصادية في مصر مختلفاً عن سواه في المنطقة العربية، والتي تجور أغلب حكوماتها، مع وصفات الإصلاح الاقتصادي، على حقوق المواطنين، بل تعيش على جيوبهم، وتحمّلهم، هم وأبناؤهم، مستقبلاً، تكاليف دفع الديون الخارجية، وتلجأ إلى أموالهم لتقترض محليا. وتحت مبرّرات خفض عجز الموازنة، وزيادة الإيرادات، وضبط النفقات، تطالب الحكومات شعوبها بتحمل أعباء سياسات اقتصادية تزيد بؤس الحياة، وتعميق أزمة الاقتصاد، وتعيق فرص التنمية الحقيقية، عبر تعطيل قوى الإنتاج.
انطلق الخطابان من رؤية عمّقت أزمة الاقتصاد عقودا، ومن خطة للإصلاح الاقتصادي طبقتها حكومات حسني مبارك من قبل، يتم استكمالها بشكلٍ أشد قسوة، ويتحمل أعباءها بشكل أساسي الفقراء والمنتجون، فمن خلال شعارات تصحيح الاختلالات المالية، تم تحرير سعر الصرف، ما خلّف نتائج كارثية على القوة الشرائية للمصريين، وقلّص مدخراتهم، وأثر سلبا على عمليات الإنتاج، نظرا لاعتماد أنشطة كثيرة لها على مداخلاتٍ صناعية مستوردة.
ركزت إجراءات الحكومة على فرض الضرائب، وتقليل الدعم، والتوسع في الاستدانة، لتوفير
تشابه الخطابان الصادران من وزارتي التخطيط والمالية، في مقولاتهما الدعائية، والتي ازدحمت بعباراتٍ فضفاضة، وكليشهية، كالتركيز على التنمية البشرية، والاهتمام بمحدودي الدخل، ورعاية الفئات الأكثر احتياجا، وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية، وإصلاح منظومتي التعليم والصحة، بالإضافة إلى وعود بتساقط ثمار الإصلاح الاقتصادي على المواطنين، هذا الوهم الذي زرعته نخب الاقتصاد المساندة للسلطوية في أردأ ثوب لها، وهو تجاور الاستبداد مع سياسات النهب والإفقار، وتراجع دور الدولة الاجتماعي.
تتجاهل الحكومة ارتفاع معدلات الفقر (تجاوزت 60%)، بل وتطالب جهات سيادية بتعديل المقاييس المستخدمة، لأن نسبة الفقر لا تتوافق مع إنجازات الدولة. كيف نصدق أن الأوضاع الاقتصادية تحسنت، أو ستتحسن، في ظل وعود متكرّرة بشأن انخفاض نسب البطالة وارتفاع الأسعار، بينما كلاهما في ارتفاع.
لا تحسن يلمح مع استمرار تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي لعام مقبل، بل ستتعمق الأزمة الاقتصادية، بما تحمله من مخططات زيادات أسعار الطاقة، وتخفيض مختلف أوجه الدعم، والاستمرار في الاستدانة، وتحميل المواطنين أعباء ذلك. بناءً على ذلك، سيواجه الاقتصاد المصري عدة تحديات، لعل من أبرزها معالجة خلل الموازنة المتعلق بضعف الإيرادات المالية بتوسيع القاعدة الضريبية، بطرق مختلفة، منها فرض ضرائب على المنشآت الاستثمارية الصغيرة ومتناهية الصغر، ما يعنى أن شرائح من المنتجين من الطبقة الوسطى ستتضرّر، كما ستؤثر الضرائب على أجور العاملين، وفرص التشغيل، على الرغم من أن الحكومة تهدف إلى
من جانب آخر، تدّعي وزارة المالية أنها تطرح موازنتها للحوار المجتمعي، لتعريف المواطنين المصريين بالسياسات المالية وخطط الإصلاح، إلا أن ذلك لا يتعدى مساحة الدعاية، فلا حوار بين حكومة ومواطنين فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية أو غيرها، فكل مسارات الحوار أغلقت، وأدوات الطبقات الاجتماعية في تعديل سياسات الحكومة ونقدها، أو التفاوض بشأنها، سلبت، فلا إمكانات لتنظيم مؤتمرات عامة، أو طرح آراء ناقدة في وسائل الإعلام. وبالطبع، لا مساحات للحراك الاحتجاجي المعارض للسياسات الاقتصادية ونتائجها.
وينطبق هذا السمت الدعائي ولغة الإيهام على خطة التنمية المطروحة من وزارة التخطيط، والتي انطلقت من إنجازات اقتصادية، حققتها الحكومة خلال أربع سنوات، مستعرضة معدلات النمو التي تخطت 5%، وانخفاض معدل التضخم إلى 13,8%، وتنامي النقد الأجنبي إلى 44,1 مليار دولار، لكن هذه الأرقام والمؤشرات تفقد قيمتها طالما انتزعت عن سياقها، وانفصلت عن باقي المؤشرات الأخرى، فإنها تبقى كذبا، كمن يقول نصف الحقيقة ويدّعي الصدق، فزيادة احتياطي النقد مردّه الاقتراض المستمر والمتصاعد، متعدّد المصادر، غير محسوب العواقب، والذي يكلف الموازنة فوائد تلتهمها (36% من مصروفات الموازنة)، إلى جانب تحسن عوائد النقد الأجنبي من العاملين في الخارج، بعد تحرير سعر الصرف. أما
ليس خطاب المجموعة الاقتصادية في مصر مختلفاً عن سواه في المنطقة العربية، والتي تجور أغلب حكوماتها، مع وصفات الإصلاح الاقتصادي، على حقوق المواطنين، بل تعيش على جيوبهم، وتحمّلهم، هم وأبناؤهم، مستقبلاً، تكاليف دفع الديون الخارجية، وتلجأ إلى أموالهم لتقترض محليا. وتحت مبرّرات خفض عجز الموازنة، وزيادة الإيرادات، وضبط النفقات، تطالب الحكومات شعوبها بتحمل أعباء سياسات اقتصادية تزيد بؤس الحياة، وتعميق أزمة الاقتصاد، وتعيق فرص التنمية الحقيقية، عبر تعطيل قوى الإنتاج.