مصر.. الحركة المدنية الديمقراطية وسؤال التغيير

24 ديسمبر 2017
+ الخط -
تأسّست في مصر، أخيرا، "الحركة المدنية الديمقراطية"، وضمت في عضويتها سبعة أحزاب، و150 عضوا وقعوا على وثيقتها الأساسية التي شكلت إعلان مبادئ. ولا يمكن التسرع فى الحكم على مستقبل الحركة الوليدة، أو قياس أثرها الآن، أو التسرّع بالقول إنها منعدمة الأثر، فالإنسان لا يضع قدمه فى النهر مرتين. والتغيّر السياسي، قانونه الأساسي التراكم، وأي تغيير يحتاج المحاولة والمثابرة والاستمرارية، بشرط تحديد الأهداف والآليات، ووجود قوة اجتماعية من مصلحتها إحداث التغيير.
وفي هذا السياق، يحمل تشكيل أي تجمع، أو عمل جبهوي، دلالاتٍ وتعبيراتٍ سياسيةً وطبقية، كما أنه إفراز للواقع المأزوم اقتصاديا واجتماعيا، وليس مجرّد تعبير عن أزمة العملية السياسية وحسب، بما تتضمن قوى النظام والأحزاب والمجتمع المدني. وكذلك يعد الاستسهال والتقليل من أثرها تقييما غير موضوعي، وسلوكا ملحقا بالخطاب السلطوي الرسمي، وأدواته الإعلامية التي تنفي الآخر لإثبات الذات. وانطلاقا من الوثيقة الأساسية التي أعلنتها الحركة، وطبيعة القوى المكونة لها، يمكن طرح تحليل عام بشأن خطاب الحركة ومنطلقاتها، وأسباب تكوّنها. وربما يساعد ذلك في أن توضع مستقبلا، وبالتزامن مع ممارسات الحركة، سيناريوهات لمستقبلها.
سبقت إعلان "الحركة الديمقراطية المدنية" محاولاتٌ عديدة لإيجاد تحالفاتٍ سياسيةٍ، باعتبارها رد فعل لممارسات السلطة، سواء الاعتقالات وقمع الحريات، أو التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، أو الإجراءات الاقتصادية الموجعة. وقد فشلت تلك المحاولات على مدار عامين، نظرا لتفتت القوى السياسية، وتردّدها فى مواجهة النظام أو معارضته، وظلت هناك أشكال من التعاون والتنسيق بين عدد من الأحزاب، تحت مظلة "التيار المدني الديمقراطي"، وظل مستوى التنسيق ضعيفا، والخطاب يسوده التردّد تحت وقع الخوف من أن يصنف هؤلاء بمعارضة النظام. وبالتالي، الاصطفاف مع جماعة الإخوان المسلمين، حسب المنطق القاصر الذي يقول إن من ليس معي هو مع الإرهاب. ولم يتضمن "التيار الديمقراطي" الشخصيات والنخب غير الحزبية، والتي لعبت، أخيرا، دورا في إعادة الحوار مرة أخرى، وتشكيل جبهة سياسية خاصة مع اقتراب انتخابات الرئاسة.

تقف خلف تشكل الحركة حالة من السخط السياسي، سواء من قوى الثورة، أو من قوى أخرى، جرى استبعادها، على الرغم من انتمائها إلى النظام القديم. ويمثل السخط الاجتماعي الذي بدا واضحا، ويتزايد لدى قطاعاتٍ شعبية، أحد عناصر الضغط على المكوّنات السياسية، والذي شجّعها في تبني خطابٍ مغاير، يغادر تأييد النظام ويُبرز مثالبه. وقد عادت شخصياتٌ وقوى عديدةٌ تنتقد مقولاتها السابقة، وتراجع آمالها التي تحولت سرابا، وترفض كثيرا من أوهامها، ومراهنتها على نظام "30 يونيو" في تحقيق دولة مدنية ديمقراطية، وسيادة مبدأ العدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني. وتأتي هذه المراجعات بعد سلسلة من إخفاقات النظام في ملفاتٍ عديدة، أبرزها حضور الملف الاقتصادي، وقضية الحريات والمشاركة السياسية، والقضية الوطنية والعلاقات الخارجية. وكل هذه الملفات تضمنتها وثيقة "الحركة المدنية الديمقراطية".
إذن، استندت الحركة على مرتكزات ثلاثة. أولها، فشل مراهنتها في تحقق نظام مدني ديمقراطي، وإحساسها بالحصار والعجز والضآلة. ثانيا، وجود حالةٍ من السخط الاجتماعي، يسمح بأن يكون حصنا ومتكأ للتعبير عنه سياسيا. ثالثا، بروز قوى سياسية واجتماعية، تريد اقتناص مساحةٍ من التعبير السياسي والطبقي. وفي ظل إخفاق النظام، واستمرار أزمته، وُجدت الفرصة السياسية في أن تنعتق بعض القوى من قبضة الاستبداد، والهيمنة الاقتصادية والسياسية للنظام، وأن تعبر عن ذاتها، وأن تجد لها دورا، وحتى إن كان هذا الدور يمثل لدى بعضهم دورا ناصحا للنظام، يرشد خطواته، ويصلح بعض أخطائه. وبالمناسبة، هذا الدور لا يخفيه كثيرون من أعضاء الحركة المدنية الديمقراطية، بحكم أنها تتألف من خليطٍ تتنوع اتجاهاته وأهدافه.
ولعل هذا التنوع، كما يحمل من عوامل قوة، يحمل عوامل ضعف، فمكوناته، بعضها راهن على ترشح أحمد شفيق أمام عبد الفتاح السيسي في انتخابات الرئاسة المقبلة، خطوة تكتيكية، من وجهة نظرهم، لإزاحة النظام، وهو مجرد وهم، خصوصا إذا تحدّثنا عن السياسات العامة، والتعبيرات الطبقية للكتل المؤيدة للمرشحين.
على الرغم من أن "الحركة المدنية الديمقراطية" تجمع أسماء من مكونات حركة كفاية (الحركة المصرية من أجل التغيير) والجمعية الوطنية للتغيير، وهما أهم تجربتين للعمل الجبهوي المؤثر في مصر، خلال الحراك السابق على ثورة 25 يناير، إلا أن هدف الحركة، مغاير، وآلياتها لم تتضح بعد، بالإضافة إلى أن الظرف مختلف أيضا. وحسب ما يُقرأ ما بين سطور إعلان مبادئ الحركة، فإن تنفيذ القانون والدستور، وليس تغير النظام أو بنيته، أو تقديم بديل له، ولعل هذه الصياغة والهدف العام يرتبط بأن أغلب مكونات الحركة لا تريد الصدام المباشر مع النظام، أو طرح شعارات يرونها متجاوزة الآن، في ظل الانصراف عن العمل السياسي، وضعف تأثير مكونات الحركة، وخصوصا النخب، بعد تأميم وسائل الإعلام وضبطها، وحصار الحركة السياسية، وتجريم كل أشكال الاحتجاج. وهذه الحالة هي ما دعت الحركة إلى تأكيد أنها تنطلق من تنفيذ القانون، وتفعيل مواد الدستور. في إشارة إلى أنها تعمل ضمن سياق النظام. وعلى الرغم من ذلك، انتقدت الوثيقة نتائج السياسات الاقتصادية التي طبقت عبر أطر قانونية، وطالبت بالإفراج عن مسجوني الرأي والتظاهر السلمي. وهنا سمة تناقض بين الانطلاق من القانون (واحترامه) والمطالبة بإلغاء آثاره. وكان الأوْلى الانطلاق من المبادئ. ولعل ذلك يرجع إلى تنوع مكونات الحركة، واختلاف منهجها، ورغبة بعض مكوناتها ألا تكون محل مسألة، وأن تحتفظ بالإكليشية المحفوظ والآمن "نعمل ضمن القانون والدستور".
وهنا تختلف "الحركة المدنية الديمقراطية" عن "الجمعية الوطنية للتغيير" التي طالبت بمبادئ عامة، وبحقوق أرادت ترسيخها في شكل دستوري، وحدّدت آليات عملها، بالإضافة إلى أن "الجمعية الوطنية للتغيير" مثلت شكلا من العمل الجبهوي المشترك الذي جمع كل القوى السياسية الراغبة في التغيير بلا استثناء. وبرزت فيها القوى الشبابية، ومثلت ذراع حركة، ورابطا بين الاحتجاجات المتكرّرة، بينما يبدو أن "الحركة المدنية الديمقراطية" متوجسة من خطابٍ، قد لا يتناسب مع طبيعة المرحلة.
لم يتحدّث البيان عن الاحتكارات، أو الفئات الرأسمالية الكبيرة المستفيدة من التشريعات والقرارات الاقتصادية التي اتخذها النظام. ولعل ذلك راجع إلى ضعف مكونات اليسار داخلها، والطبيعة المحافظة لأغلب الشخصيات المؤسسة لها. ومن اللافت أيضا أن الحركة لم تحدّد آلياتٍ لحركاتها، وكيف ستواجه الأزمة الشاملة التي عدد أوجها البيان التأسيسي.

إجمالا، يمكن القول إن الحركة الوليدة تعبير عن تململ سياسي في مصر للنخب، والقوى السياسية التي تريد تغييرا يسمح بمساحةٍ للتحقّق، تأخذ فيها دورها بوصفها معارضة تقليدية، وليست بديلا للنظام، تريد أغلب مكونات الحركة أن يكون صوتها مسموعا من دوائر اتخاذ القرار، وألا تهمش.
وإلى جانب إيجاد بيئةٍ تسمح للاعبين بممارسة أدوار سياسية، يتضح من البيان أن هناك قوى سياسية تمثل فئاتٍ رأسماليةً متضرّرة من تدخل بعض هيئات الدولة في بعض القطاعات الاقتصادية. وهو ما جاء ضمنا في البيان الذي ركّز على توصيف أحوال مصر، من تدهور اقتصادي، وقمع سياسي، وارتهان القرار الخارجي، والتفريط فى الأرض والثروات. وقد انتقدت الحركة الحكم الفردي، بوصفه المسبب الرئيسي لتلك الأزمات، وهذا يخفي قصورا في التحليل الذي يرى أن إنهاء الحكم الفردي يضمن وقف التدهور، بوصف أن سياسات النظام نتاج لفرد، وليس نتاج مصالح طبقةٍ يحكم باسمها فرد. وهذا الفهم هو ما جعل القيادة السياسية للحركة الجماهيرية، طوال الثورة، تركز على الأفراد، أكثر من تركيزها على برنامجٍ يتضمن مطالب محدّدة، تعالج الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ستكون الحركة المدنية الديمقراطية رقما في الحراك السياسي ورصيدا للتغيير في مصر، إذا استطاعت تحديد هدفها بوضوح، واستعد من يقودها لدفع الثمن، وأن تجمع الحركة كل الأطياف السياسية والاجتماعية المتضرّرة من النظام، وأن تخلق آليات تنظمهم، ليصبحوا تيارا للتغيير لا النصح. أما إذا لم تستطع فعل ذلك، فإنها ستضاف إلى تجارب جبهوية أخرى، تنازعها التفتت والاختلاف، ولغة المصالح الضيقة، ثم تموت تحت هجوم السلطة وأدواتها في إجهاض أي محاولة لاستنهاض الهمم، وتقسيمها وتخريبها.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".