28 أكتوبر 2024
مصر.. الارتباك سيد المشهد
شهر مليء بالأحداث السياسية في مصر، تزامن مع استعدادات النظام لمرحلة جديدة من الحكم، عنوانها الرئيسي ترتيب هيئات السلطة، وإعادة ترميمها، وهدم أي إمكانات لحراك سياسي معارض لتمديد حكم الرئيس عبد الفتاح السيسى، استخدمت السلطة أساليب قمعية لإزاحة أي عوائق تعترض طريقها، وتعيق تمدد نفوذها وهيمنتها، فمن توظيف سلطة التشريع إلى استخدام درجات متفاوتة من العنفين، المادي والمعنوي، لم يسلم من العقاب كل من وضعوا أنفسهم محل التنافس والترشح، أو طرح بدائل للنظام، أو حتى إصلاحه، يتساوى في ذلك من انتمى لقوى النظام القديم في دولة حسني مبارك، أو قوى المعارضة، قوبل الجميع بمواجهاتٍ شملت التشويه والاغتيال المعنوي برصاص الفضيحة، وتلفيق القضايا والتهديد بالحبس، أو الحبس الفعلي، انتظارا للمحاكمات التي أدمنها النظام أداة إخضاع لكل مخالفيه، لم يخلُ المشهد من "قرص الإذن" هنا وهناك، عبر إطلاق رسائل التهديد التي ارتدت، في بعض الأوقات، زى النصيحة، النظام مرتبك، ولا طاقة له على الحوار حتى مع شرائكه، فإن القوى السياسية أكثر ارتباكا، نظرا لتفتتها وضعفها.
على مستوى قوى المعارضة، ساد التخبط، حين فتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة، لم تستطع القوى السياسية الاتفاق على مرشح لها، فترك المرشح، خالد علي، وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية وحيدا، على الرغم من الخطاب الجاد الذي قدمه، كذلك لم يجمع قوى اليسار حوله،
والتي اختار معظمها تأييد عبد الفتاح السيسي. وعلى الرغم من ذلك، خاض خالد علي معركة جمع التوكيلات من أجل الترشح، واستطاع، لأول مرة منذ أربع سنوات، جمع طيف واسع من شباب الثورة، وبعض النخب في معركةٍ خاطفةٍ انتهت بإعلان انسحابه من الانتخابات، ليكشف تردّد قوى اليسار وانسحاق بعضها في تأييد سلطةٍ تنفذ عكس ما يؤمن به من مبادئ وأفكار تقدمية. أعلن حزب التجمع، على سبيل المثال، تأييده المطلق للسيسي، بينما لم تعلن ثلاثة أحزاب يسارية أخرى موقفها في انتظار ما سمّته إعلان قائمة المرشحين.
كانت مواقف القوى الليبرالية أكثر وضوحا، كلها تؤيد السيسي باستثناء أشخاصٍ يمكن عدهم على أصابع اليد، أبرز هؤلاء المؤيدين حزب المصريين الأحرار والوفد، ولا يحتاج الأمر إلى استبيان مواقف الأحزاب التي ولدت من رحم حزب مبارك بعد ثورة يناير، كالمحافظين أو الأحزاب التي شكلت بأوامر الأجهزة الأمنية، مثل مستقبل وطن. وكذلك لسنا في حاجة لبيان موقف الأحزاب الموالية الكرتونية التي تديرها مكاتب الأمن، ومنها حزب الغد الذي جمعت الدولة لرئيسه، موسى مصطفى موسى، توكيلاتٍ من النواب، ليترشح أمام السيسي في آخر عشر دقائق قبل غلق باب الترشح، وهو موسى نفسه الذي كان يدعو، ليل نهار، إلى مبايعة السيسي.
اختار قسم آخر من القوى السياسية الاصطفاف خلف أحمد شفيق وسامي عنان، المرشحين من داخل الدولة القديمة، لكن شفيق سرعان ما تراجع، بعد احتجازه في احد الفنادق تحت حراسة مشدّدة، ثم تم إبعاد عنان بدعوى مخالفته القوانين العسكرية، ليصبح الرجل، وهو رئيس سابق لأركان الجيش، أول سجين عسكري بهذه الرتبة، نتاج قرار ترشحه، بعد اتهامه بمحاولات النيْل من الجيش، ولعل ذلك يرجع إلى أن شفيق وعنان يمثلان خطرا على الكتلة الحاكمة، بوصف أن ترشحهما يشير إلى احتمال حدوث شرخ في صفوف الكتلة الحاكمة، وخصوصا الجيش والأجهزة الأمنية. وهذا الاحتمال يعني حدوث انقسام في بنية السلطة، نظرا إلى تمدد علاقة المرشحين بالمؤسسات الأمنية، وقطاعات من البيروقراطية الكبيرة المنتمية لنظام مبارك، والتي انتقلت إلى تأييد السيسي، بعد حراك 30 يونيو. بالإضافة إلى ذلك، يعني ترشح شفيق وعنان أن هناك قوى دولية وإقليمية ومحلية شجعتهما على الترشح، وهذا بالطبع يقلق السلطة، وولد شعورا لديها بأن هناك حالة من التآمر ضدها.
على صعيد آخر، هناك مجموعة من النخب تراجع تأييدها للنظام، فانضمت، مع كتلة التيار المدني المكونة من حزب الكرامة، والاجتماعي الديمقراطي، والدستور، والتحالف الشعبي، في الحركة المدنية الديمقراطية التي ظلت صامتةً أمام مشهد الترشح، وانقسمت قواها فيما يخص الانتخابات، فوقف بعضها خلف عنان، وبعضها الآخر خلف خالد علي وأحمد شفيق. وحين استبد النظام، وأزاح كل المرشحين، وخلت ساحة الترشيح، دعت الحركة إلى مقاطعة الانتخابات.
وأمام هذا المشهد، سواء بظهور مرشحين، أو بتشكل جبهة تدعو إلى المقاطعة، زاد ارتباك النظام، وصعّد من حدة خطابه المتشنج وأفعاله العصبية، على الرغم من أن قوى النظام ما زالت قوية على الأرض، وسعت إلى جمع توكيلاتٍ تجاوزت 900 ألف توكيل، عبر شراء التوكيلات من مواطنين مفقرين، أو من خلال إجبار مئات الآلاف من عمال المصانع الخاصة والموظفين الحكوميين، لعمل توكيلات مؤيدة لترشيح السيسي، ولعبت في عملية الدعاية مؤسساتٌ عديدة، منها نقابة المعلمين واتحاد عمال مصر، لتصوغ مشهدا مصنوعا من التأييد للنظام، كما لعب ائتلاف دعم مصر النيابي، بمساعدة الأجهزة الأمنية والتنفيذية، دورا في الحشد لمؤتمرات التأييد في المحافظات. وفي مشهد دال، خرجت في الإسكندرية مسيرة بالأحصنة، مؤيدة للسيسي، في ذكرى "موقعة الجمل" التي قادها فلول نظام مبارك ضد المعتصمين في ميدان التحرير في الأيام الأولى لثورة يناير، مستخدمين الأحصنة والجمال.
شواهد عديدة على ارتباك النظام وقلقه، أولها تصعيد الهجوم على المرشحيْن السابقيْن، سامي عنان وأحمد شفيق، وكلاهما من قيادات المؤسسة العسكرية سابقا، كما أوضحت السلطة أعلى مراحل الانحطاط، حين اعتدت مجموعة من البلطجية على رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، المستشار هشام جنينة، والذي حسبته السلطة على "الإخوان المسلمين"، حين أعلن عن مؤشرات الفساد في مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من ذلك، لم تتردد بعض الأصوات الإعلامية في اتهام "الإخوان" بالاعتداء عليه لإحراج النظام.
أسباب ارتباك السلطة وقلقها عديدة، لكن أبرزها عاملان: الأول بروز مرشحين ومنافسين
لنظامٍ من داخل دولة مبارك وخارجها، والذي يمثل استهدافا متعدد الاتجاهات لرأس النظام، ويعبر أيضا عن ضغوط محلية وإقليمية موجهة إلى السيسي. أما العامل الثاني فهو قلق النظام من تراجع الكتلة المؤيدة له، والذي سينعكس، بالطبع، على نسب المشاركة، لتكون المقاطعة العنوان الرئيسي لمهزلة الانتخابات، وقف الارتباك والقلق خلف الهجوم المتكرّر على من تجرأ على الترشح، أو من يدعو إلى المقاطعة، والذين تم حشرهم فى زمرة الأشرار، والخونة المتآمرين، الذين يحاولون اختلاق الأكاذيب ونشر الفتن وتخريب الوطن. ولم يتوقف هذا الخطاب السلطوي الحاد الذي يوزع التهم على أبواق الإعلام، بل أصبح جزءا من خطابات متكرّرة لرأس السلطة، هدّد السيسي الجميع بوضوح، قائلا إنه لن يسمح بتكرار ما حدث منذ سبع سنوات، في إشارة إلى ثورة يناير، واتهم معارضيه بالمتآمرين، الجهلة، المتربصين بالجيش والدولة، وهدّد باستخدام العنف، وأوضح أنه لا مجال للحوار مع هؤلاء، في واقعةٍ، هي الأولى من نوعها التي يوجه فيها السيسي خطابا حادّا للقوى السياسية المدنية، ليعلن أنه في معاداة الجميع، حتى من سبق واستعان بهم. وربما يفتح هذا الخطاب الباب لمواجهة حادة ضد كل المعارضين، تستخدم فيها البنية القانونية الاستبدادية لمواجهة معارضي النظام.
لم يكتف السيسي بلغة التهديد، بل استدعى فكرة التفويض الشعبي التي استخدمت من قبل لمواجهة مخاطر الإرهاب، ليواجه بها معارضيه، كما تضمن الخطاب كلاما مبهما حول وجود مؤامرة تستهدف الجيش والدولة. وبهذا الخطاب، يعترف رأس النظام بأن وجوده مرتبط بالجيش، وأنه يحكم من خلاله. وهذا الخطاب، بجانب أنه سلطوي، يخلط الأوراق بين بقاء رئيس الدولة في منصبه والجيش، فإنه يؤشر إلى مدى استعداد النظام للدخول في مواجهاتٍ عنيفة مع كل من يعارضه، ويحمل أيضا احتمالات شديدة الخطورة على مستقبل وحدة كيان الدولة المصرية التي نجت من التفتت والصراع الداخلي بين مكوناتها خلال الصراع السياسي الدائر في مصر منذ ثورة يناير.
على مستوى قوى المعارضة، ساد التخبط، حين فتح باب الترشح لانتخابات الرئاسة، لم تستطع القوى السياسية الاتفاق على مرشح لها، فترك المرشح، خالد علي، وكيل مؤسسي حزب العيش والحرية وحيدا، على الرغم من الخطاب الجاد الذي قدمه، كذلك لم يجمع قوى اليسار حوله،
كانت مواقف القوى الليبرالية أكثر وضوحا، كلها تؤيد السيسي باستثناء أشخاصٍ يمكن عدهم على أصابع اليد، أبرز هؤلاء المؤيدين حزب المصريين الأحرار والوفد، ولا يحتاج الأمر إلى استبيان مواقف الأحزاب التي ولدت من رحم حزب مبارك بعد ثورة يناير، كالمحافظين أو الأحزاب التي شكلت بأوامر الأجهزة الأمنية، مثل مستقبل وطن. وكذلك لسنا في حاجة لبيان موقف الأحزاب الموالية الكرتونية التي تديرها مكاتب الأمن، ومنها حزب الغد الذي جمعت الدولة لرئيسه، موسى مصطفى موسى، توكيلاتٍ من النواب، ليترشح أمام السيسي في آخر عشر دقائق قبل غلق باب الترشح، وهو موسى نفسه الذي كان يدعو، ليل نهار، إلى مبايعة السيسي.
اختار قسم آخر من القوى السياسية الاصطفاف خلف أحمد شفيق وسامي عنان، المرشحين من داخل الدولة القديمة، لكن شفيق سرعان ما تراجع، بعد احتجازه في احد الفنادق تحت حراسة مشدّدة، ثم تم إبعاد عنان بدعوى مخالفته القوانين العسكرية، ليصبح الرجل، وهو رئيس سابق لأركان الجيش، أول سجين عسكري بهذه الرتبة، نتاج قرار ترشحه، بعد اتهامه بمحاولات النيْل من الجيش، ولعل ذلك يرجع إلى أن شفيق وعنان يمثلان خطرا على الكتلة الحاكمة، بوصف أن ترشحهما يشير إلى احتمال حدوث شرخ في صفوف الكتلة الحاكمة، وخصوصا الجيش والأجهزة الأمنية. وهذا الاحتمال يعني حدوث انقسام في بنية السلطة، نظرا إلى تمدد علاقة المرشحين بالمؤسسات الأمنية، وقطاعات من البيروقراطية الكبيرة المنتمية لنظام مبارك، والتي انتقلت إلى تأييد السيسي، بعد حراك 30 يونيو. بالإضافة إلى ذلك، يعني ترشح شفيق وعنان أن هناك قوى دولية وإقليمية ومحلية شجعتهما على الترشح، وهذا بالطبع يقلق السلطة، وولد شعورا لديها بأن هناك حالة من التآمر ضدها.
على صعيد آخر، هناك مجموعة من النخب تراجع تأييدها للنظام، فانضمت، مع كتلة التيار المدني المكونة من حزب الكرامة، والاجتماعي الديمقراطي، والدستور، والتحالف الشعبي، في الحركة المدنية الديمقراطية التي ظلت صامتةً أمام مشهد الترشح، وانقسمت قواها فيما يخص الانتخابات، فوقف بعضها خلف عنان، وبعضها الآخر خلف خالد علي وأحمد شفيق. وحين استبد النظام، وأزاح كل المرشحين، وخلت ساحة الترشيح، دعت الحركة إلى مقاطعة الانتخابات.
وأمام هذا المشهد، سواء بظهور مرشحين، أو بتشكل جبهة تدعو إلى المقاطعة، زاد ارتباك النظام، وصعّد من حدة خطابه المتشنج وأفعاله العصبية، على الرغم من أن قوى النظام ما زالت قوية على الأرض، وسعت إلى جمع توكيلاتٍ تجاوزت 900 ألف توكيل، عبر شراء التوكيلات من مواطنين مفقرين، أو من خلال إجبار مئات الآلاف من عمال المصانع الخاصة والموظفين الحكوميين، لعمل توكيلات مؤيدة لترشيح السيسي، ولعبت في عملية الدعاية مؤسساتٌ عديدة، منها نقابة المعلمين واتحاد عمال مصر، لتصوغ مشهدا مصنوعا من التأييد للنظام، كما لعب ائتلاف دعم مصر النيابي، بمساعدة الأجهزة الأمنية والتنفيذية، دورا في الحشد لمؤتمرات التأييد في المحافظات. وفي مشهد دال، خرجت في الإسكندرية مسيرة بالأحصنة، مؤيدة للسيسي، في ذكرى "موقعة الجمل" التي قادها فلول نظام مبارك ضد المعتصمين في ميدان التحرير في الأيام الأولى لثورة يناير، مستخدمين الأحصنة والجمال.
شواهد عديدة على ارتباك النظام وقلقه، أولها تصعيد الهجوم على المرشحيْن السابقيْن، سامي عنان وأحمد شفيق، وكلاهما من قيادات المؤسسة العسكرية سابقا، كما أوضحت السلطة أعلى مراحل الانحطاط، حين اعتدت مجموعة من البلطجية على رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، المستشار هشام جنينة، والذي حسبته السلطة على "الإخوان المسلمين"، حين أعلن عن مؤشرات الفساد في مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من ذلك، لم تتردد بعض الأصوات الإعلامية في اتهام "الإخوان" بالاعتداء عليه لإحراج النظام.
أسباب ارتباك السلطة وقلقها عديدة، لكن أبرزها عاملان: الأول بروز مرشحين ومنافسين
لم يكتف السيسي بلغة التهديد، بل استدعى فكرة التفويض الشعبي التي استخدمت من قبل لمواجهة مخاطر الإرهاب، ليواجه بها معارضيه، كما تضمن الخطاب كلاما مبهما حول وجود مؤامرة تستهدف الجيش والدولة. وبهذا الخطاب، يعترف رأس النظام بأن وجوده مرتبط بالجيش، وأنه يحكم من خلاله. وهذا الخطاب، بجانب أنه سلطوي، يخلط الأوراق بين بقاء رئيس الدولة في منصبه والجيش، فإنه يؤشر إلى مدى استعداد النظام للدخول في مواجهاتٍ عنيفة مع كل من يعارضه، ويحمل أيضا احتمالات شديدة الخطورة على مستقبل وحدة كيان الدولة المصرية التي نجت من التفتت والصراع الداخلي بين مكوناتها خلال الصراع السياسي الدائر في مصر منذ ثورة يناير.