مصر... "أمة العَوَز" إذ تكدِّس الأسلحة

18 سبتمبر 2020
+ الخط -

مرة أخرى، تشتري من سمّاها رئيسها، عبد الفتاح السيسي، "أمة العَوَز" و"شبه الدولة"، الأسلحة الزائدة على حاجتها، والتي قد ترهقها، بسبب تكاليف تخزينها وحراستها وصيانتها ومنع الصدأ عنها والجهد المطلوب لذلك. ولا يُعرف مدى حاجة مصر لهذه الأسلحة، وهي التي بحاجةٍ إلى كل جنيه ينفق عليها لاستخدامه في مشاريع التنمية، لانتشال المصريين من فقرهم، ووقف تضخم الاقتصاد ودعم التنمية. ولا تعارض الولايات المتحدة تنويع النظام المصري مصادر تسلُّحه، ولا يفعل ذلك الكيان الإسرائيلي الذي يستطيع استشعار كل مصدر قوة تحاول الدول العربية المحيطة اكتسابها، ويسارع إلى منعه عنها. ويبقى التساؤل قائماً عن سبب تكديس مصر هذه الأسلحة التي تضاعفت كمياتها في السنوات الأخيرة، مع عدم وجود تهديدٍ عسكري مباشر للبلاد.

ظهرت في الأيام الماضية تقارير تفيد بتضاعف مشتريات مصر من الأسلحة الإيطالية الصنع بمقدار ثلاث مرات خلال سنة 2019 عمّا كانت عليه سنة 2018؛ إذ أنفقت أكثر من مئتي مليون يورو على شراء الأسلحة الإيطالية، وقطع غيارها وبرمجيات تشغيلها. واتفقت مع الشركات الإيطالية على شراء طائرات تدريب وطائرات مروحية، بقيمة تصل إلى نحو 800 مليون يورو، إضافة إلى خطط شراء فرقاطتين بقيمة مليار ومئة مليون يورو، كذلك هنالك خطط لعقد صفقة تسلح معها بقيمة 11 مليار يورو خلال الفترة المقبلة. 

ومع هذه العقود، تكون مصر قد نوَّعت مصادر تسلحها، فلا تتوقف على الولايات المتحدة وحدها، بل شملت، بعد وصول السيسي إلى الحكم، سنة 2013، إضافة إلى إيطاليا، ألمانيا وفرنسا. وفي إطار هذا التنويع، توجَّهت باكراً إلى فرنسا، وعقدت معها اتفاقية تسليح، بداية سنة 2015، زوَّدت فيها فرنسا مصر بـ 24 طائرة حربية من نوع رافال وفرقاطة، بما مجموعه خمسة مليارات يورو. ثم أتبعتها بعد أشهر بصفقة لتزويدها بحاملتي مروحيات نوع ميسترال بقيمة مليار و750 مليون دولار، صُنعتا لروسيا، ورفضت فرنسا تسليمها إياهما. بعد ذلك توجَّهت إلى ألمانيا، وعقدت اتفاقيةً معها، سنة 2016، للتزوّد بأربع غواصات بقية مليار و600 مليون دولار، وحصل ذلك على الرغم مما كان يسود العلاقات بين البلدين من فتور، نتيجة سجلها في مجال حقوق الإنسان. كذلك عقدت مع روسيا صفقات لشراء 46 حوّامة لزوم حاملتي الطائرات اللتين ستكونان مثل صندوقي خردة من دونها. وهذا ما يدعو إلى السخرية، بسبب ظهور مصر مثل ذلك الذي اشترى ثلاجة كبيرة يعجز عن ملئها بالطعام. واتفقت معها أيضاً على شراء طائرات مقاتلة، ونظام دفاعٍ صاروخي، يرجّح أن يكون نظام أس 400. وبذلك، تصبح مصر من أكبر مستوردي الأسلحة في العالم خلال الأربع سنوات الأخيرة.

يصرّ السيسي على مناقضة نفسه، حين يحاول إظهار قوة بلاده العسكرية، ويمعن في تسليحها، في وقت يواظب فيه، بشكلٍ دائمٍ، على إظهار ضعفها الاقتصادي

لا يمكن تبرير الدوافع وراء شراء هذه الأسلحة وتكديسها، فوق القديم المكدّس أساساً، فهي تشهد أوضاعاً أمنية مستقرة، خلا القلاقل في شبه جزيرة سيناء، التي يمكن التغلب عليها بدعم تنمية المنطقة، وتحسين مستوى معيشة أهلها. كذلك، لا يمكن النظر إلى هذه الصفقات الزائدة على حاجة البلاد سوى أنها أداةٌ اتخذها السيسي لشراء الشرعية من الغرب، وإسباغها على نظامه الذي كان يعاني من العزلة نتيجة اعتبار الجميع له أنه غير شرعي، بعد وصوله إلى السلطة بانقلابٍ عسكري على رئيسٍ منتخب، وبعد مجازره بحق المحتجين على انقلابه، وعلى سياسات نظامه، وزجّه المعارضين في المعتقلات ومصادرة الحريات. 

تقارير تفيد بتضاعف مشتريات مصر من الأسلحة الإيطالية الصنع بمقدار ثلاث مرات خلال سنة 2019 عمّا كانت عليه سنة 2018

إذا كانت أوساط السيسي تردّد على الدوام أنه "لا بد للسلام من قوة تحميه"، فماذا سيكون حال تسلحها لو لم تكن في حالة سلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتناغمٍ يكاد يصل إلى مرحلة التحالف، كما في سياسة التضييق على الشعب الفلسطيني التي تتبعها سلطة السيسي؟ وما حجم التسلح والمبالغ التي كانت ستنفقها على شراء الأسلحة، لو لم تكن تهادن إثيوبيا في حربها المائية عليها، أو تهدّد بالتدخل في الحرب الليبية، ولا تفعل؟ وماذا سيكون عليه الحال، لو أن مصر تسعى إلى زيادة نفوذها في المنطقة، وهي المنكفئة من سنوات، عن أداء دور إقليميٍّ، وزاد في انكفائها تسليمها جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تراجع نفوذها في البحر الأحمر؟ كذلك، لم يُظهر السيسي أي معارضة للخطط الأميركية والإسرائيلية لضم الضفة الغربية وتنفيذ صفقة القرن بنقل الفلسطينيين إلى سيناء وجعلها دولة لهم، بدلاً من الضفة الغربية وقطاع غزة، فلو أنه عارض، لكان بحاجةٍ لتلك الأسلحة لتدعيم موقفه.

يحاول السيسي إظهار قوة بلاده العسكرية، ويمعن في تسليحها، في وقت يواظب فيه على إظهار ضعفها الاقتصادي

ولكن لماذا يصرّ السيسي على مناقضة نفسه، حين يحاول إظهار قوة بلاده العسكرية، ويمعن في تسليحها، في وقت يواظب فيه، بشكلٍ دائمٍ، على إظهار ضعفها الاقتصادي؟ فكلما ازدادت المطالب الشعبية وظهرت بعض الاحتجاجات على تردّي الأوضاع المعيشية، يردّد السيسي عباراته التي تظهره عاجزاً يقود بلاداً عاجزة سمّاها "أمة العَوَز" التي يحاول أن يجعلها "أمةً ذات شأن". ثم يؤكد للمصريين ويطلب منهم معرفة واقعهم، حين يقول: "يا ريت حد يقولكم إن إحنا فقرا أوي"، ليظهر نفسه بمظهر العاجز، حين يؤكد: "مش مش عايز أديك.. مش قادر أديك"، وهو الذي وضع نفسه في هذا الموقع المفترض بصاحبه إيجاد الحلول لمشكلات المواطنين، غير أنه يخذلهم قائلاً: "أجيب منين؟ حد يقولي أعمل إيه؟". لكن كل ذلك "العَوَز" وذلك الفقر لم يمنعا السيسي من تسليحه ما سمّاها "شبه أمة"، تسليحاً يكفي أمماً أخرى، ويستنزف مقدراتها من دون سببٍ وجيهٍ.

كذلك، وعلى غير المتوقع، لم يدفع تراجع عائدات مصر من العملة الأجنبية بسبب جائحة كورونا التي أثرت بتحويلات المصريين من الخارج، وبعائدات السياحة وعائدات قناة السويس، لم يدفع السيسي إلى تغيير خططه في عقد الصفقات من ناحية تأجيلها. ويدل هذا الأمر على أنه غير آبه لتجويع شعبه وشراء أسلحة مقابل استمرار دعم الغرب له. وليس سرّاً أن جزءاً من هذا التمويل قد يكون مصدره العربية السعودية ودولة الإمارات، وهما اللتان تضخّان الأموال في عروق نظام السيسي، لمنعه من السقوط تحت ضغط الشارع، من جهة، ولاستخدام قوة بلاده العسكرية في حروبهما في اليمن وليبيا. ولكن إن انجرَّ السيسي إلى حروب هذا الثنائي ومغامراته، فستتحول مصر إلى وقود لمخططاتهما، وتصبح عندها "شبه أمة" يكون "العَوَز" أقلّ المصائب التي تعاني منها.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.