مشاهد من كوميديا عراقية

09 يوليو 2014

مشهد على ضفاف دجلة (Getty)

+ الخط -


كان مشهداً شديد البؤس، شديد الحساسية، ذاك الذي بدا فيه رئيس السن في البرلمان العراقي مخذولاً، وهو يستنجد بالأعضاء القلة الذين آثروا البقاء ليسعفوه بما عليه أن يفعل، بعدما انسحب غالبية الأعضاء، بعد أداء القسم، مهرولين نحو مكتب التسجيل، لتسلم استمارات الرواتب والامتيازات وجوازات السفر الدبلوماسية والسلاح وتخصيصات أفراد الحماية الذين يصل عددهم إلى ثلاثين شخصاً، إضافة إلى منحة تحسين الحال!

ولاحظ مشاهدو الفضائيات كيف أسقط في يد الرئيس الذي، ربما، كان يتوقع أن تكون الجلسة منظمة وسلسة، إلى الحد الذي يمكن فيه انتخاب الرئيس الدائم ونائبيه، لكي يتفرغ الأعضاء لمناقشة ما تواجهه البلاد من محن ومشكلات، يفترص أن يتصدّى لها "ممثلو الشعب"، وأن يوجدوا لها الحلول والمعالجات المطلوبة، لكنهم كانوا في وادٍ آخر، حيث انشغلوا، على حد ما وصفه مراسل وكالة الأنباء الفرنسية، "في تبادل الضحكات والنكات الساخرة بصوت عال، والتقاط الصور التذكارية على طريقة سيلفي"، أي طريقة التصوير الذاتي التي تعكس، كما يقول علماء النفس، نرجسية زائدة وهوساً بالذات، يريد صاحبها أن يقول للآخرين "أنا هنا .. وليكن ما يكون"، و"بدوا في حالة من اللامبالاة واللامسؤولية، وكأن البلاد في أحسن حال!"، والتعليق هو للمراسل نفسه.

ولعل مراسلي الفضائيات ووكالات الأنباء الذين توافدوا إلى مبنى البرلمان، و"اجتازوا أكثر من عشرة حواجز تفتيش، تفصل بين كل منها والآخر أمتار قليلة"، كانوا متلهفين إلى ما سوف يدور في جلسة البرلمان، في بلد يعاني محناً قاسية صعبة في آن معاً: محنة احتلال، ومحنة اقتتال؛ ومحنة تقسيم، ومحنة انقسامات وتوترات ومخاوف حادة تطال كل بيت، وفي أذهانهم ما يمكن أن يجترحه البرلمانيون من حلول، لكن هؤلاء المراسلين أسقط في أيديهم هم أيضاً، بعدما خرجوا بحصيلة بائسة، تشكل مشهداً صغيراً من مشاهد الكوميديا السوداء التي يعيشها العراقيون، منذ أكثر من عقد.

هكذا تذكّرنا حماقات برلمانيي العراق بحماقات اللصوص وقطاع الطرق الذين انقضّوا على مدينة كيوتو، العاصمة القديمة لليابان التي واجهت، منتصف القرن الثامن للميلاد، سلسلة من العواصف والحرائق، أوقعت ضحايا كثيرين، وأشاعت الخراب والدمار، وبحسب رواية "بوابة راشومون"، فإن أهل المدينة كانوا يتساقطون جثثاً ورماداً فيما كان هؤلاء اللصوص وقطاع الطرق يتسابقون للحصول على بقايا الأيقونات والمجوهرات وسبائك الذهب، ولم يلتفت أحد منهم إلى إصلاح بوابة المدينة، أو نجدة أهلها.

ونذكر من مفارقات الزمان أن المكان الذي عقدت فيه جلسة برلمانيي العراق يبعد نحو مائتي كيلومتر عن المكان الذي التأم فيه أول برلمان في تاريخ البشرية، حيث تذكر الألواح السومرية أنه قبل أكثر من خمسة آلاف عام، واجهت مملكة الوركاء تهديداً من جارتها دولة كيش التي خيرتها بين دفع الجزية أو الغزو، وللرد على تحدٍّ صعبٍ كهذا، رأى الملك

جلجامش ضرورة التوافق على خيارٍ يحفظ للأمة كرامتها، ويتيح لأبنائها فرصة المساهمة الفعلية في سلطة القرار، وكان أن أنشأ، ولأول مرة في تاريخ البشرية، برلماناً سياسياً مكوّناً من مجلسين، الأول للشيوخ والثاني للشباب، وكان على المجتمعين أن يختاروا بين خيار السلم وحقن الدماء، وبين خيار المواجهة والحرب والحفاظ على الاستقلال، وقد اجتمع مجلس الشيوخ، واختار طريق السلام، مهما كان الثمن، ولم يوافق الملك كلكامش على القرار، وعرض الأمر على مجلس الشباب الذي دعا إلى المواجهة وإعلان النفير العام، وصادق الملك على ذلك.

المفارقة أن العراق يواجه تحدياً مصيرياً كالذي واجهته مملكة الوركاء، قبل خمسة آلاف عام، وفي حينها تصدى برلمانيو الوركاء للتحدي الذي واجه بلادهم، فيما تصرف برلمانيو اليوم وكأن الأمر لا يعنيهم!

مفارقة أخرى، أن ممثلي الأمة، قبل خمسة آلاف عام، كانوا متطوعين لخدمة مواطنيهم، لا يتقاضون عنها أجراً ولا ثواباً، فيما يدفع المواطن العراقي، المغلوب على أمره، اليوم، أكثر من مائة وستين مليوناً من الدولارات سنوياً عن حماقات البرلمانيين وشرورهم!

هل نقول إن الدنيا تغيرت، وإن ما آل إليه حال العراق يستحق الشفقة والرثاء؟

هل نقول إن حماقات البرلمانيين وشرورهم هي حصيلة للديمقراطية العرجاء التي جاء بها الأغراب؟

يقول ماريو فارغاس يوسا الحائز على نوبل "انهيار الأنظمة الشمولية لا يؤدي بالضرورة إلى قيام ديمقراطية حقيقية، إنما قد يفضي إلى أشكال من الحماقات والشرور، يصل بعضها إلى حد الوحشية القاتلة!".

و"لكل داء دواء يستطبّ به    
إلا الحماقة أعيت من يداويها"

كذلك هو حال العراق! 

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"