فرغم قسوة الموت هناك، في غزة، هزّني فرَحاً، نداء الأب مانويل مسلّم، رئيس دائرة العالم المسيحي في منظمة التحرير الفلسطينية (غزة)، إلى مسلمي غزّة، بقوله: إذا هدموا مساجدكم ارفعوا الآذان من كنائسنا. وأنعشني أن تُقام صلاة التراويح داخل كنيسة "القديس بيرفيريوس"، في غزّة قبل أيّام، بعدما استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي عشرات المساجد في قطاع غزّة. نداءٌ يجسّد وحدة الموقف الوطني من مسلمي ومسيحيّي فلسطين تجاه العدوان.
نتذكّر الآن، يوم الثاني من أبريل/ نيسان 2002، حين اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي بيت لحم مهد المسيح عليه السلام، وحاصرت كنيسة المهد 39 يوماً، بل إن القوّات الإسرائيلية أمطرت الكنيسة بقذائف الدبّابات ورصاص المدافع الرشّاشة، ما أدّى إلى تدمير وحرق أجزاء كبيرة من مبانيها ومحتوياتها، فلم تقرع أجراس الكنيسة لأوّل مرّة في تاريخها، وحُرم السّكان من أداء صلاة الأحد.
حدث هذا في كنيسة المهد، أقدس المقدّسات المسيحية، في العالم كلّه، ولا تزال إلى يومنا هذا تمثّـل قبلة العالم المسيحي بجميع طوائفه، يقصدها الحجّاج من جميع أنحاء الأرض بوصفها المكان المقدّس، الذي شهدت مغارةٌ فيه ولادة السيّد المسيح وأنشئت الكنيسة عليه.
أسوق هذه الشواهد، في ظلّ تصاعد حضور "داعش" والحركات الظلامية، وأرى أنّ المطلوب من المسلمين والمسيحيين المؤمنين أن يعملوا معاً للقضاء على داعش وأمثالها من قوى الظلام. وفي هذا الإطار، علينا أن نستحضر ما أمكن من صور التكافل والتعايش بين المسلمين والمسيحيّين العرب، في مختلف البلدان العربية.
شواهد باقية
ليس من باب الفصل بين المسلمين والمسيحيين أن نقول: مأدبا، مدينة أردنية ذات وجود مسيحي كبير. على النقيض من ذلك، فإن غزّة، مدينة فلسطينية ذات أغلبية إسلامية.. وأقلّية مسيحية. أقول هذا، في ظل ما تقوم به قوى الظلام ضد المسيحيّين، في الموصل تحديداً، باستثناء مرحلة "الدّاعشيّين" أو "الدّواعش" التي نحظى بالعيش في كنفها، ظلّ الجانب الإنسانيّ بين الجانبين محكوماً بالاندماج والتلاحم والانصهار، وظلّوا جميعاً متقاربين متعايشين بسلام ومحبة. وفي هذا السياق، لن أعود إلى الماضي البعيد، بل إلى أقرب ما يحصل من ملامح "أخوّة" حقيقية بين أبناء الأمّة الواحدة، مسيحيّين ومسلمين، ومن ثمّ بين المسجد والكنيسة.
فمن يدخل مدينة مأدبا جنوب العاصمة الأردنية عمّان، سيكتشف الكثير من هذا التداخل والتلاحم بين الديانتين، فهناك أوّلاً مسجد يحمل اسم السيد المسيح بن مريم، وثمة ثانياً، مسجد بُني على أرض تبرّع بها رجل مسيحيّ من أبناء المدينة. هما مَعْلمان بارزان لمن يريد أن يفحص عمق هذه العلاقة.
لا نريد لشعوبنا أن تعيش هواجس الصراعات الدينية والطائفية، بينما من يخوضونها بعيدون كلّ البعد عن الدين، فلا داعش ولا المتطرّفين من كلّ الطوائف، يمثّلون الأديان والطوائف التي يدّعون الدفاع عنها. وما تقوم به هذه الحركات الدموية لا ينتمي إلى أيّة ديانة، فضلاً عن خروجه على القوانين والأخلاق الإنسانية. هذا هو مضمون التواصل والوئام بين أبناء الديانتين في عالمنا العربي عموماً.
أجراس الكنيسة للإفطار
من يقف وراء مسجدٍ يحمل اسم السيد المسيح، اعتبروا هذا المسجد "رمزاً للتعايش والاستقرار الاجتماعي والتسامح الديني"، فيما بدأت وسائل الإعلام المحلية في تسليط الضوء على هذا المسجد الذي "يتميّز بمزايا خاصة يدعمها المسلمون والمسيحيون معاً". المسجد الذي أقيم بالقرب من كنيسة معروفة في مدينة مأدبا، وهو الوحيد في العالم العربي، وفي العالم كله ربما، الذي يحمل هذا الاسم.
وحسب مؤسّسه وصاحب فكرته وإمامه الشيخ جمال السفرتي، تولّدت فكرة إنشائه بعدما لاحظ أنّ العالم الإسلامي مليء بالمساجد التي تحمل أسماء جميع الأنبياء باستثناء اسم السيد المسيح. وقد أراد السفرتي، كما يقول، أن يرسل رسالة تسامح وتعايش بعد الحملة التي اتخذت أبعاداً (صليبية)، وانتهت بالرسوم التي أساءت للرسول محمد عليه الصلاة والسلام. وبحسب السفرتي أيضاً، فالمسجد يجسّد "رسالة تقول إن المسلمين، في الشرق على الأقل، لا يفكرون بطريقة عنصرية، بل يردّون على الإساءة بمبادرات طيبة".
وعلى نحو متّصل، نقرأ قصّة تقول: إنه قبل ما يزيد عن 50 عاماً، مرض إمام مسجد في قرية في شمال الأردن مرضاً شديداً في شهر رمضان، منعه عن إعلام الناس بموعد الإفطار، فلاحظ أحد القائمين على الكنيسة المجاورة للمسجد، وهو الذي اعتاد سماعَ صوت الآذان في موعد الإفطار، عدم رفع الآذان، وعلم هذا الرجل المسيحي أن خطْباً ما قد ألمّ بجاره المسلم، فقام بقرع أجراس الكنيسة ليُعلمَ المسلمين بأن موعد الإفطار قد حان.
وتكرّرت القصّة في القرن الماضي، عندما قام أحد أبناء العشائر المسيحية من عائلة "مرار" بالتبرّع بقطعة أرض لبناء مسجد في مأدبا، وقامت الدولة ببناء مسجد عليها أطلق عليه اسم مسجد الحسين بن طلال. وقد صُمّم المسجد على نمط العمارة العثمانية، ويعدّ اليوم أكثر مساجد مأدبا اكتظاظاً بالمصلين في يوم الجمعة.
وقبل ثلاثة أعوام، شعر رجل الدين المسلم جمال جمعة السفرتي أنّ عليه ردّ الدَّين للمسيحيّين، الذين ساهموا بشكل كبير في تعزيز قيم التعايش بين المسيحيين والمسلمين في مأدبا، فسمع أنّ أحد أبناء مأدبا، أردني مقيم في أوكرانيا، سوف يقوم ببناء مسجد، فسارع إليه مقترحاً تسميته باسم السيد المسيح عيسى ابن مريم.. فوافق هذا المغترب، وجرى تنفيذ الفكرة.