مذكرات حسن الكرمي: سورية وفلسطين في القرن العشرين

10 ابريل 2016
الأديب والإعلامي حسن الكرمي
+ الخط -
لا يُذكر اسم حسن الكرمي 1905-2007، إلا ويُذكر معه اسم والده الشيخ سعيد الكرمي الذي حكم عليه بالإعدام في 1916، وأخوه الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، والبرنامج الذي اشتهر به في العالم العربي على مدى 33 سنة "قول على قول".

وأخذا بعين الاعتبار حياته التي تعدّت المئة عام، كان الكرمي بحق شاهدا على القرن العشرين وما فيه من أحداث جسام، وخاصة ما بين فلسطين وسورية التي انتقلت بسرعة من الحكم العثماني إلى الحلم العروبي ثم إلى الانتداب الفرنسي/ الإنجليزي وما تمخض عنه من تعديلات لتفاهم سايكس - بيكو ووعد بلفور. ومن هنا أحسن منتدى الفكر العربي في عمّان بإصداره لهذه المذكرات التي أعدّتها ابنته سهام الكرمي وكايد هاشم، لما لهذه المذكرات من قيمة.

ارتبط مصير حسن وإخوته عبد الكريم وعبد الغني وحسين ومحمود بما حدث لوالدهم الشيخ سعيد الكرمي، مفتي منطقة طولكرم، الذي عُرف بثقافته العربية الواسعة، حيث ألقت القبض عليه السلطات العثمانية في أواخر 1915 وسيق مع شهداء 1916 إلى المجلس العرفي في عاليه اللبنانية، حيث حُكم عليه بالإعدام أيضا بتهمة المشاركة في حركات سرية ضد الدولة العثمانية. ولكن الحكم خُفّف إلى المؤبد بسبب مكانته، ثم تدخل مفتي الجيش العثماني الرابع الشيخ أسعد الشقيري (والد أحمد الشقيري) لإطلاق سراحه في 1917.

ومع دخول الأمير فيصل إلى دمشق وإعلان "الحكومة العربية" في تشرين الأول/ أكتوبر 1918، تأسّس "المجمع العلمي العربي" الذي ضمّ الشيخ سعيد الكرمي، فانتقلت العائلة من طولكرم إلى دمشق. وهنا تكتسب مذكرات حسن قيمة وهو يحدّثنا عن ذكريات الدراسة في مدرسة عنبر، التي جمعته مع طلاب أصبح لهم شأن في ما بعد، مثل صلاح الدين البيطار وخالد بكداش ورياض الميداني وغيرهم. فبعد الاحتلال الفرنسي لدمشق وإثر معركة ميسلون، غادر الشيخ سعيد إلى عمّان التي وصلها الأمير عبد الله على رأس قوة لـ"تحرير سورية"، ولكن سرعان ما تحولت إلى عاصمة لإمارة شرق الأردن التي شغل فيها الشيخ سعيد منصب قاضي القضاة. ولكن الأولاد بقوا في دمشق لأجل إكمال الدراسة في مدرسة عنبر التي تحولت إلى بؤرة للحركة الوطنية، حيث تشكلت جمعية سرية اشترك حسن في تأسيسها وأشعلت الحراك المعادي لفرنسا. كان أخوه محمود مديرا لمدرسة الملك الظاهر القريبة، التي خرج طلابها في مظاهرة أيضا، ما أدى إلى عزله فاضطر أن يغادر إلى عمّان.

ولكن الأسرة سرعان ما عادت إلى فلسطين ليسترد الأب دوره ويشق الأولاد طرقهم المختلفة في التعليم والأدب والسياسة. فقد تعرّض الأمير عبد الله إلى ضغوط من الانكليز لإبعاد الشخصيات العروبية من الإمارة عام 1924، ومنهم الشيخ سعيد، كما أن حسن أنهى في العام ذاته الدراسة في مدرسة عنبر والتحق بالكلية الانجليزية في القدس لأجل امتحان الشهادة المدرسية النهائية "المترك" الذي يؤهله للقبول في الجامعات. ولكن الكلية عرضت عليه التدريس وأقنعه مساعد مدير وزارة المعارف جورج أنطونيوس، الذي رحل بعدها إلى الولايات المتحدة، بالعمل هناك لتدريس الرياضيات، وانتقل بعدها للعمل في عدة مدارس أخرى في انتظار فرصة لمتابعة الدراسة في بريطانيا.

في مذكراته عن فلسطين في الثلاثينيات، يقدم حسن الكرمي صورة مريرة عن الأوضاع في بلاده، وبالتحديد عن الانقسام بين العائلات الكبيرة وواجهاتها السياسية (الأحزاب)، وخاصة الانقسام بين المجلسين (أتباع المفتي أمين الحسيني) والمعارضين لهم الذين كان منهم والده الشيخ سعيد، في الوقت الذي كان الوجود اليهودي بفلسطين يتوسّع ويتعزّز اقتصاديا وسياسيا وعسكريا. وقد وصل النزاع و"الإرهاب" بين الفلسطينيين إلى حد أن حسن يصل إلى نتيجة مفادها "أن تلك الأحزاب كانت من صنع أعداء الفلسطينيين، بل إنها كانت مفروضة عليهم، إذ كيف يعقل أن تكون الأحزاب مختلفة حول القضية الأساسية وهي الدفاع عن الأرض؟".

ونظرا لأنه ابن الشيخ سعيد (أحد أركان المعارضة في فلسطين)، فقد انتقلت التهمة إليه، حيث كانت المعارضة للمفتي الحسيني تعني "الخيانة" عند أتباعه ويتعرض صاحبها للتهديد بالقتل. وبسبب ذلك، يفصّل حسن الكرمي في المضايقات والتهديدات التي أخذ يتعرّض لها، إلى درجة أنه لم يعد يذهب للعمل واعتزل في البيت خوفا من الاغتيال على يد فلسطينيين من أتباع الحسيني، وهو ما أثار السخط بسبب "حوادث الخراب والقتل والتشريد التي أحدثتها الحرب الأهلية بين الفلسطينيين".

بسبب هذه الحالة المريرة، يصل المؤلف في 1946 إلى القول إن عرب فلسطين أصبحوا "يحبّذون بقاء الانتداب البريطاني لأنه لم يكن لهم من حام سواه في وجه الغطرسة اليهودية". ومع هذه الحالة المتناقضة (القوة اليهودية مقابل الفرقة العربية)، أصبح اليهود يرون أنه قد حان الأوان لتأسيس دولتهم وأن عليهم إخراج البريطانيين من فلسطين، وأخذوا في السيطرة التدريجية على أحياء القدس، ومن ذلك حي القطمون، الذي كان يقيم فيه المؤلف، ما أرغمه على مغادرته واللجوء إلى عمان في نيسان 1948، أي قبل انتهاء الانتداب البريطاني وانسحاب القوات البريطانية في 15 أيار/ مايو.

ولكن الوصول إلى عمّان كان مجرد محطة إلى عالم أرحب برز فيه حسن الكرمي واشتهر، ألا وهو انتقاله إلى لندن للعمل في محطة الإذاعة البريطانية حيث اشتهر ببرنامجه الثقافي "قول على قول" الذي استمر به 33 سنة حتى عام 1987. وكان هذا البرنامج الأسبوعي يقوم على الثقافة الشعرية، حيث يستعرض أبيات الشعر وأصحابها والمناسبات التي قيلت فيها وغيرها. وقد حظي البرنامج بانتشار كبير من خلال الأسئلة التي كانت تأتيه من بلاد عربية وغير عربية، ولكن ما فاجأه لاحقا اكتشافه أن بعض القادة العرب كانوا يتابعون برنامجه، مثل الرئيس جمال عبد الناصر والملك فيصل بن عبد العزيز والملك إدريس السنوسي والرئيس أحمد حسن البكر والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. ففي زيارة له إلى طرابلس، التقى الملك السنوسي وطلب منه أن يجيب عن بيت من شعر دون أن يذكر اسمه الصريح، كما أن الشيخ زايد اختلف مع وزير له حول بيت من الشعر فكتب بذلك إلى حسن الكرمي لكي يفصل بينهما!

خلال عمله في الإذاعة اهتم حسن الكرمي بوضع خبرته في الترجمة في متناول الجميع، فتوجّه لوضع المعاجم، حيث أصدر عام 1970 قاموس "المنار" ثم أصدر بعده "المغني" و"المغني الكبير" وصولا إلى "المغني الأكبر". وفي هذا السياق، فقد انشغل أيضا بالترجمة من العربية إلى الانجليزية، فترجم "البخلاء" للجاحظ، ووضع أيضا قاموسا عربيا انجليزيا.

مع تقدّمه في العمر، آثر حسن الكرمي في 1991 أن ينتقل إلى عمان القريبة من الوطن، ولكنه شعر بالوحدة بعد وفاة زوجته بسرعة وعدم انسجامه مع المحيط الجديد. فقد أخذ على المحيط الجديد "سرد القصص والحكايات، أما الحديث عن الأمور العقلية والفكرية فكان ضئيلا". وحتى في حضوره اجتماعات مجمع اللغة العربية، الذي كان عضو شرف فيه، لاحظ "أن المجمع يضمّ أعضاء لا يشترط فيهم معرفة اللغة العربية معرفة جيدة وبعضهم لا يجيد أية لغة أجنبية"، و"في جميع جلسات المجمع التي حضرتها لم أجد أن موضوعا يخصّ اللغة العربية ومشكلاتها قد جرى بحثه بما يستحقه من الجد والاهتمام". والأغرب من ذلك، كما ينتهي حسن الكرمي في مذكراته، أن الأغلاط كانت حتى في أسماء شوارع عمّان، ولذلك يسأل بمرارة "من المسؤول عن هذه الأخطاء في بلد عربي فيه مجمع للغة العربية؟".

مذكرات حسن الكرمي تختلف عن غيرها بكونها ليست مذكرات سياسي، وإن كانت تستعرض بمرارة الحالة السياسية لعرب فلسطين، بل هي مذكرات مثقف عايش التغيّرات السياسية في القرن العشرين منذ نهاية الحكم العثماني وحتى الغزو الأميركي للعراق في 2003 دونما ادعاءات كبيرة، ولكن مع معطيات كثيرة توضح حال العرب والثقافة في القرن العشرين.

(أكاديمي كوسوفي/ سوري)

المساهمون