مخيم اليرموك.. مأساة الشتات الفلسطيني
مثلت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الشتات حواضن اجتماعية للثورة الفلسطينية التي أخفقت، غير مرة، في حماية تلك الحواضن، لتدفع مخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان ثمناً باهظاً. أما في العراق، فلم يعد ممكناً الحديث عن أي مجال سوسيولوجي فلسطيني، وما يزيد الفلسطيني مأساة أنه لم يمتلك بعد ذاكرة مثقوبة.
لم تُترَك مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، في أحيان عدة، مكشوفة أمنياً وعسكرياً فقط، بل أيضاً سياسياً واجتماعياً، وكانت الحلقة الأضعف عند حدوث أي هزات اجتماعية أو أمنية أو سياسية في الدول العربية المضيفة. ومنذ تجربتيّ الأردن ولبنان، اكتفينا بلوم القوى العميلة، وتلك المضادة للثورة والأنظمة الرجعية، والتي لا يمكن إعفاؤها من المسؤولية. لكن، لم نمتلك، نحن الفلسطينيين، الشجاعة اللازمة لممارسة النقد الذاتي، لتحديد مسؤوليتنا عما جرى، ولاستخلاص الدروس والعبر الكفيلة بتجنب تكرار أخطاء الماضي، لتتكرر المأساة في العراق. أما مخيم اليرموك اليوم فليس حكاية أخرى.
في الوقت الذي احتضنت فيه مخيمات الشتات الكفاح المسلح، لعب الأخير دوراً مهماً في منح الشتات الوحدة اللازمة لأي حراك اجتماعي وسياسي. لكن التوجه إلى عسكرة النضال الفلسطيني، الذي هيمن على عمل فصائل المقاومة الفلسطينية، أدى إلى العجز عن تطوير أساليب مناسبة للنضال الوطني الفلسطيني، تجمع بين الكفاح المسلح والعمل السياسي الشعبي والتنظيمي. فغُيّب البعد الاجتماعي اللازم للنضال الوطني، أو تم اختزاله إلى مجرد خدمات اجتماعية في هذا المجال أو ذاك، بحجة غياب وحدة اجتماعية وجغرافية وسياسية لفلسطيني الشتات. ومنذ مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، ثم اتفاقيات أوسلو، فُرض على الكفاح المسلح المنطلق من الشتات الدخول في سبات حتى إشعار آخر، الأمر الذي انعكس على حراك هذا الشتات وفاعليته وعرّضه للتصدع الاجتماعي والتهميش السياسي.
كان مخيم اليرموك بحق عاصمة الشتات الفلسطيني، ليس لأنه التجمع الأكبر للاجئين الفلسطينيين في الشتات، بل، أيضاً، لدوره الفاعل في مختلف مراحل الثورة الفلسطينية. وعلى خلاف حركة فتح، وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي استقرت في تونس منذ أواسط الثمانينات، تركز ثقل معظم الفصائل الفلسطينية في مخيم اليرموك، وكانت غالبيتها معارضة لاتفاق أوسلو، فاكتفت بسياسة الاتهام والتخوين والاستنكار، من دون قدرتها على طرح استراتيجية بديلة لاستراتيجية قيادة منظمة التحرير، ومن دون أن تستطيع أن تبلور برنامجاً نضالياً خاصاً بالشتات الفلسطيني، الأمر الذي جعلها عديمة الفعالية جماهيرياً. أما الفصائل من خارج منظمة التحرير، مثل حركة "حماس"، التي انطلقت، أساساً، من الداخل لتتمدد في الشتات، وتبني لها قاعدة جماهيرية، لاسيما في مخيم اليرموك، استناداً إلى دورها في الكفاح المسلح في الداخل الفلسطيني، فلم يكن حالها في الشتات أفضل من حال باقي الفضائل، وبدا عملها أشبه بعمل الجمعيات الخيرية، وهيمن فيه الدعوي على الوطني.
كانت الفصائل الفلسطينية بحاجة للإنعاش، فما أن اندلعت الانتفاضة الثانية في الداخل، واتخذت طابعاً عسكرياً، حتى بدأت تلك الفصائل تبحث فيها عن موطئ قدم، وتركز ثقلها في الداخل، بعد أن خسرته في الخارج، ما عنى التخلي نهائياً عن مسؤولياتها حيال الشتات الفلسطيني. وبعد أن مثل مركزاً فكرياً وحراكا ثقافياً واجتماعياً، بدأ مخيم اليرموك يصبح بيئة مغلقة.
منذ مارس/آذار 2011، لم تتوفر لدى الفصائل والقوى الفلسطينية في سورية أي خطة طوارئ لمواجهة تطورات محتملة، قد تنعكس سلباً على الوجود الفلسطيني في سورية. وربما فاق العجزَ السياسي تلك السذاجةُ السياسية التي افترضت بقاء المخيم على الحياد حتى النهاية، ونظر إلى الحياد مطلباً بديهياً توفره الأطراف كافة من دون أي إجراءات فعلية تضمنه. لكن انقسام الفصائل الفلسطينية حول الموقف من المسالة السورية، وتضارب ولاءاتها ومصالحها، كان في حد ذاته عاملاً في توريط المخيم، وكان لاحقاً، إلى جانب عوامل أخرى، سبباً في تعطيل التوصل إلى حل لأزمته. وطوال نحو عامين، رزح فيها المخيم تحت الحصار، وتفاقمت فيه الأحوال الإنسانية إلى درجة مزرية، لم تستطع فصائل منظمة التحرير، وغيرها من القوى الفلسطينية، أن تقدم أي عون حقيقي لمن تبقى من المدنيين داخل المخيم، لا على صعيد فك الحصار، أو إدخال مساعدات إنسانية كافية، ولا على صعيد فتح ممر آمن لمن يريد الخروج، اللهم إلا نزر يسير من المساعدات غير المنتظمة، وإخراج أعداد محدودة من الجرحى والمرضى، وبعض طلاب الشهادات والجامعات لتقديم امتحاناتهم. وكانت الحجة دائماً هي الظروف الموضوعية الصعبة، في ظل تعقد الحالة السورية، مع أنه لو كانت الظروف الموضوعية ملائمة دائماً لما كان هناك مبرر لوجود قيادات فلسطينية، يناط بها توفير تلك الظروف.
ومنذ انقضاض "داعش" على مخيم اليرموك، بدا عجز منظمة التحرير وارتباك موقفها جلياً في البيانات الأولى، الصادرة عن دائرتها السياسية في دمشق، وقد بدت مثل تقارير صحافية صادرة عن وكالة أنباء مستقلة. أما أكناف بيت المقدس التابعة لحركة حماس، والتي اقتسمت الهيمنة العسكرية، أخيراً، على المخيم مع جبهة النصرة، فقد غضت النظر مراراً عن ممارسات تلك الأخيرة، بدءاً من التنكيل بالأهالي وإعدام شبان من المخيم في الساحات العامة، بحجة انتهاك حرمات الدين، حتى وصل بها الأمر إلى التواطؤ مع "داعش"، والتمكين لها. ليكون ما حدث، أخيراً، في أحد جوانبه، ثمناً لاستمرار الموقف الموارب حيال تلك الحركات الجهادية التكفيرية، بدعوى التقارب الأيديولوجي والعقائدي.
سبق لبعضهم أن حمّل المدنيين من سكان اليرموك مسؤولية ما بنزوحهم عن المخيم. ولكن، لن يكون هؤلاء مسرورين اليوم بمشاهدة مأساة عشرين ألفاً، وقد أصبحت مأساة لمائة وستين ألفاً منهم، مع أن كلا المرّين يفوق الآخر مرارة. ويبقى فتح ممر آمن لخروج المدنيين، واتخاذ تدابير عملية للحفاظ على ما تبقى من مجال سوسيولوجي فلسطيني في سورية أضعف الإيمان.