من جهته، فإن تنظيم "داعش"، يمعن هو الآخر بعمليات القتل بشتى الأساليب، بعضها يكاد يكون "ابتكاراً" خاصاً له، يُسجلّه حصرياً في تاريخه، من قطع الرؤوس إلى الحرق، مروراً بالقتل بواسطة القذائف والأسلحة المتوسطة والثقيلة، ولفّ المتفجرات حول أجساد الضحايا، وانتهاءً بدفنهم أحياء، أو وضع أثقال في أجسادهم وإغراقهم بمياه دجلة.
خلال ذلك كله تنشغل بغداد وأربيل في خلاف عميق هذه الأيام، حول مرحلة ما بعد تحرير نينوى وعاصمتها الموصل، الحدودية دولياً مع تركيا وسورية، ومحلياً مع كردستان العراق ومحافظات كركوك وصلاح الدين والأنبار.
وحتى ليل أمس الثلاثاء، كانت المعارك، والتي وُصفت بـ"الأعنف من نوعها منذ نحو عام"، تدور في محاور عدة من الموصل إثر هجمات مباغتة شنّها "داعش" على القوات العراقية والكردية، تمكن خلالها من السيطرة على بلدة تل سقف وتل عبطة وقرية أبو شيت وثلاث مزارع كبيرة، شرق وجنوب وشمال الموصل، ضمن محوري الكوير ومخمور. وقد شاركت قوات برية أميركية من الوحدة 101 المجوقلة في المعارك، وخسرت جندياً واحداً وأُصيب اثنان آخران. وفي هذا الإطار، اعتبر مسؤولون عراقيون في بغداد أن "التلكؤ والتعثر في الهجوم، تسبب بهذه الخسارة".
مع العلم أن عمليات تحرير الموصل تأخرت، على الرغم من مرور ثلاثة أشهر على استكمال التحالف الدولي كافة الاستعدادات العسكرية للهجوم، فضلاً عن تدريب وتأهيل نحو 9 آلاف مقاتل محلي من سكان الموصل، وتجهيز فرقتين بالجيش العراقي. كما اكتفت القوات العراقية بهجوم يتيم واحد، تمكنت خلاله من تحرير أربع قرى صغيرة، تبعد عن الموصل 61 كيلومتراً، استطاع التنظيم استعادة واحدة منها.
ويشير إلى أن "الأكراد يصرّون على تقسيم محافظة نينوى إلى ثلاث محافظات، والاتفاق على مرحلة ما بعد داعش قبل الخلاص منه". ويتابع "يريد الأكراد محافظة في سهل نينوى، تشمل المناطق المسيحية التي يسكنها الأرثوذكس واللاتين وبقية الطوائف، وتكون المحافظة مستقلة بطبيعة الحال عن الموصل. كما يُمكن إنشاء محافظة ثانية في سنجار، ذات الغالبية من الديانات الإيزيدية والكاكائية والزرادشتية وطوائف أخرى صغيرة، غالبيتهم يتحدثون اللهجة الكردية، بفعل قربهم من أربيل ودهوك بكردستان العراق، أو لكونهم من القومية الكردية أصلاً. وتكون هذه المحافظة منفصلة أيضاً. من جهتها، تكون الموصل والبعاج والجزيرة، وصولاً إلى الحدود السورية، ثم جنوباً إلى مثلث فيش خابور (ليس من ضمنها)، محافظة ثالثة، تُعرف باسم نينوى أو الموصل". ويبيّن المسؤول الكردي أن "الخلاف السياسي حول مستقبل محافظة نينوى يُشكّل السبب الرئيسي لعدم تحريرها من سيطرة داعش، والأميركيون لديهم القدرة على تحريرها من دون أدنى شك".
حتى إن تقريراً لمركز "باس" الإعلامي، المدعوم من الحزب الحاكم في إقليم كردستان، يفيد بأن "قيادة الإقليم باتت تشترط تأسيس محافظتين على أجزاء من أراضي محافظة نينوى، واحدة في منطقة سهل نينوى، وثانية في سنجار".
من جهته، يصف مسؤول عراقي بارز في بغداد المحاولات الكردية بـ"الابتزاز والخبث السياسي لتقسيم العراق إلى دويلات مستقبلاً لا تخدم سوى الكيان الصهيوني" على حد قوله. ويشير، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "أنتم أول من يثير هذا الموضوع وطالما حرصنا على عدم إثارته كونه يصب بصالح داعش، لكن الآن يمكن القول إن الأكراد يبتزونا".
ويضيف أنهم "يريدون المشاركة مقابل تقسيم نينوى، ونينوى هي محافظة مدينة الموصل، واحدة من أكثر مدن العراق تعايشاً وسلاماً بين المسلمين والمسيحيين، ولا يمكن تخيلها أجزاء على الإطلاق. كما يستغلّ الأكراد في الوقت عينه طريق الوصول إلى الموصل، من كردستان، كنقطة ضعف، فيحددون فيها من يشارك ومن لا يشارك".
كما يردف المسؤول بأن "الأكراد يريدون تقسيم نينوى ليس حباً بالمسيحيين ولا التركمان ولا الإيزيديين، بل لمخططات ضمّ أجزاء من نينوى، أو إضعاف المحافظة التي تمتلك أطول حدود مع كردستان، والتي يطمحون لأن تتحوّل لدولة مستقلة عن العراق".
ويختم قائلاً إنه "لن تكون سنجار سوى قضاء إداري يتبع نينوى وعاصمتها الموصل، وكذلك سهل نينوى، لن يكون سوى قضاء إداري يتبع الموصل. وقد أبلغت بغداد بايدن بذلك صراحة، حتى لو اضطررنا إلى الاستغناء عن خدمات البشمركة نهائياً".
وقد حاولت إيران وفقاً لتقارير عدة، دفع حزب "العمال الكردستاني" التركي المسلّح، للمشاركة في تحرير نينوى، بعد دفعها لإشراك مليشيات "الحشد الشعبي"، وهو ما يمثل مشكلة سياسية أخرى في خاصرة ملف تحرير الموصل.
وإزاء الطروحات الحالية لتقسيم نينوى كان رئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي يعمل على تقسيم نينوى هو الآخر، بمشروع يخدم أغراضاً خاصة تستفيد منها إيران بدرجة كبيرة. ويتضمن مشروع المالكي، والذي يلقى تأييد الكثير من الفصائل في "الحشد الشعبي"، تحويل قضاء تلعفر (90 كيلومتراً شمال غرب الموصل)، إلى محافظة بسبب وجود نسبة غير قليلة من الأكراد والتركمان الشيعة، قد تمكنه من منافسة بقية الأحزاب في الانتخابات ضمن محافظات الشمال والغرب العراقي.
ويقول رئيس لجنة الأمن والدفاع العراقية حاكم الزاملي، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، إن "الموصل تبقى عراقية ولا يمكن لأحد تقسيمها". ويضيف: "نعم صحيح هناك مخطط، لكن يجب أن يعلم أصحابه أنه لن ينجح، فنينوى ستبقى واحدة، وحتى أهالي الموصل يرفضون أن يكون ثمن تحريرهم هو تقسيم نينوى". ويتابع قائلاً إنه "هناك استعدادات وتهيئة واسعة للجيش العراقي، ونحن قدّمنا الحل الحقيقي بصراحة، والقاضي بأن يشترك الجيش والشرطة والعشائر. وهذا الحلّ يحرم جميع من يطمح بهيمنة أو سطوة أو تقسيم لمحافظة نينوى". ويتابع "لذا يكمن الحل الآن بتقوية الجيش العراقي، ولدينا نماذج ناجحة عن تحرير الجيش للرمادي وهيت وبيجي، وبالأمس القريب فكّ الحصار عن حديثة".
ويتهم الزاملي الأميركيين بأنهم "يحاولون خلط الأوراق على بغداد في هذا الملف، ولا يعطون إجابات واضحة"، مستدركاً أنه "اعتدنا على السياسة الأميركية بأنها مع الأقوى على مدى السنوات الـ13 الماضية، وهي كانت تقف مع الأقوى في تعاملها مع الفصائل والأطراف العراقية، لكن بالنسبة لنينوى، فهي وحدة واحدة وتبقى عراقية".
وحول تعليق الزاملي، ترد القيادية في "التحالف الكردستاني" نجيبة النجيب، عبر "العربي الجديد"، قائلة إن "الجميع أكد على ضرورة أن يكون هناك اتفاق لإدارة الموصل بعد تحرير داعش، وإشراك سياسي للجميع وعدم تكرار الأخطاء".
من جانبه، يرد السياسي الكردي حمة أمين، على الانتقادات للمشروع الكردي، بالقول إن "تقسيم نينوى لثلاث محافظات أفضل بكثير من استمرار مسلسل الدم، ولن يكون هناك شيء يفرض على الأهالي فهم بالنهاية من سيقرر من خلال استفتاء كما نص عليه الدستور". ويتابع أن "تضخيم الموضوع بهذا الشكل وتقديم سوء النية أمر اعتادت عليه بغداد، خصوصاً للتحالف الوطني وأربيل، طيلة السنوات الماضية، مع حكم نوري المالكي، وبات معه من اللازم إعادة النظر بالتحالف السياسي بين الكردستاني والتحالف الوطني". ويشير أمين إلى أن "قادة بغداد مهووسون بنظرية المؤامرة، وعليهم ألا ينسوا أنه لولا البشمركة وتضحياتهم لكانت خارطة داعش أكبر مما هي عليه الآن في المناطق العربية".
وتُعدّ نينوى ثالث أكبر محافظة عراقية بعد الأنبار والمثنى، والثانية عراقياً لناحية الكثافة السكانية، وتقطنها غالبية عربية سنية، فضلاً عن المسيحيين والإيزيديين والصابئة والكاكائية والشبك والقوميتين الكردية والتركمانية، ويتركز تواجدهم على حدود تركيا وحدود كردستان مع المحافظة من الاتجاه الجنوبي للموصل. وفيها ارتكب "داعش" واحدة من أبشع الجرائم في العراق، بعد تنفيذه عمليات قتل وتهجير وسرقة ممتلكات المسيحيين، كما عمد إلى سبي نساء وفتيات أبناء الديانات الأخرى، والتي عدّها "غير كتابية" وفقاً له.
كما أن عدد الضحايا بلغ أكثر من خمسة آلاف عراقي من أبناء تلك الطوائف، فيما ارتكب التنظيم مجازر متفرقة بالموصل، وصل مجموعها إلى 62 مجزرة، سقط ضحيتها أكثر من ألفي مواطن تحت ذرائع وتهم الانتماء لـ"الإخوان المسلمين" و"البعث" أو "العمالة" و"التجسس" أو "العمل في أجهزة الشرطة والجيش" وغيرها، وجميع هؤلاء من العرب السنة.
وعقب سيطرة "داعش" على نينوى برزت دعوات لتأسيس محافظتين جديدتين على أراضي الأقضية والنواحي التي تضمّ مناطق المسيحيين والشبك والتركمان والإيزيديين بما يطلق عليه "سهل نينوى"، ومحافظة ثانية في سنجار. ويطمح إقليم كردستان الذي يؤيد بقوة هذا التوجه إلى أن يقبل سكان تلك المناطق بانضمام المحافظتين إلى الإقليم مستقبلاً، مقابل تعهّد الإقليم بحماية السكان هناك من قبل قوات "البشمركة" وقوات محلية ومنع تهديدات الجماعات المسلحة عنها. وهو خيار ثانٍ للإقليم في حال فشل في كسب المادة 140 من الدستور العراقي المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها بين بغداد وإقليم كردستان.