دفعت المواقف الأخيرة في تونس إلى الاعتقاد بأن هناك تهديدات حقيقية للديمقراطية التونسية الناشئة، سياسياً وتنظيمياً واجتماعياً وعلى مستوى قياس مؤشر الحريات أيضاً. وتصاعدت المخاوف من انتكاسة ممكنة لمسار الانتقال الديمقراطي، في ظلّ حالة من الجمود المتواصلة بشأن استكمال بناء المؤسسات الدستورية وقطع بقية الخطوات القليلة التي ستنهي المرحلة الانتقالية، من الحكم المحلي والمحكمة الدستورية وغيرها. كما جاء ملف الانتخابات البلدية وما طاوله من تجاذبات في سياق التأكيد بأن عجلة الانتقال الديمقراطي متعثرة بفعل تعطيل متعمّد، مع إلقاء كل طرف بالمسؤولية على الآخر.
وفشل البرلمان التونسي للمرة الثانية في انتخاب رئيس لهيئة الانتخابات، على الرغم من عدم حاجته إلى أكثر من 109 أصوات فقط لإنهاء كابوس هذه الهيئة، التي تحوّلت إلى عبء واضح على التونسيين. ولكن الحسابات السياسية الضيقة أفشلت هذه الخطوة ومددت من عمر هذه الأزمة. لكن حزبي "نداء تونس" و"حركة النهضة"، وبقية داعميهم، فشلوا في حصد 109 أصوات لصالح الرئيس الجديد، في ترسيخ لأزمة ثقة حقيقية داخل الائتلاف نفسه.
غير أن الأخطر في هذا الصدد، هو ما كشفه ونبّه إليه رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، في لقاءٍ إعلامي، عندما عبّر عن "تخوف الحركة من عدم إجراء الانتخابات البلدية في موعدها المقرر"، وعن خشيته "من وقوع أحداث تكون مبرراً لتأجيلها"، في إشارة إلى وجود رغبة لدى بعض الأطراف في تأجيل الانتخابات وتخوّفها من نتائجها. ولبعض الأحزاب حسابات مفادها أن الانتخابات البلدية في 25 مارس/ آذار 2018، مؤثرة على حظوظها في الانتخابات التشريعية والرئاسية في عام 2019، تحديداً إذا خسرت البلديات. بالتالي، فإن هناك دفعاً لتأجيلها إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
في هذا الإطار، عبّرت بعض الجهات المراقبة لمسار الانتقال التونسي، عن مخاوفها من تأجيل هذه الانتخابات مرة أخرى. وكشف رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بالنيابة، أنور بن حسين، أن "الاتحاد الأوروبي متخوّف من تأجيل الانتخابات البلدية إلى ما لا نهاية، وهم متخوفون كذلك على مسار الانتقال الديمقراطي". وتساءل: "لماذا لا تعبّر الأحزاب عن موقفها بوضوح من موعد 25 مارس، فهناك من قال بوضوح إنه ضد هذا الموعد، وهناك من لم يصدر بيانات رسمية؟".
وكانت جمعية "كلنا تونس"، ومنظمة "البوصلة"، و"الجمعية التونسية من أجل نزاهة وديمقراطية الانتخابات" (عتيد)، و"الجمعية التونسية للحوكمة المحلية"، اعتبرت في بيان لها، أن "تأجيل الانتخابات البلدية، هو خطوة للوراء في مسار الانتقال الديمقراطي، وإرباك المسار الانتخابي سيزيد في تردي وضع البلديات التي أصبحت النيابات الخصوصية غير قادرة على إدارتها".
وفي مجال آخر، شكّل عدم استكمال المحكمة الدستورية مصدر قلق واضح لدى أغلب مكونات الساحة السياسية التونسية، فتعقّد مسارها أيضاً مثل هيئة الانتخابات. وفشلت الكتل النيابية في حسم ملفات المرشحين، فيما عجزت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين عن الحسم في بعض الطعون المقدمة إليها في أكثر من ملف، ما وجّه إليها انتقادات من المعارضة خصوصاً.
وتبادل الائتلاف الحاكم مع المعارضة اتهامات متعددة بشأن طريقة إدارة الشأن السياسي والبرلماني. وهو في جوهره متعلق بالممارسة الديمقراطية، مع اتهام المعارضة للائتلاف بالتغوّل والسيطرة على القرار السياسي. أما الائتلاف فأعلن رفضه لدكتاتورية الأقلية وعدم قبولها بلعبة الصندوق.
وجاءت حادثة الرئيس السابق منصف المرزوقي، نهاية الأسبوع الماضي، مربكة لمشهد الحريات، إثر منعه من قبل عدد من أهالي مدينة المنستير الساحلية، من دخول إذاعة "الرباط" لإجراء حوار صحافي. ووصف حزب "حراك تونس الإرادة"، الحادثة بـ"المؤشر الخطير، مع تهاون السلطات أمام مليشيات حماية الاستبداد والفساد، التي تحرّكت على مرأى من الجميع لتعطيل تنقل رئيس جمهورية سابق من دون تدخل من المصالح الأمنية"، محمّلاً السلطات الجهوية والأمنية المسؤولية عما حصل.
ووصف بيان للحزب من قاموا بمنع رئيس حزب الحراك من "حقه في الإعلام وفي التواصل مع المواطنين"، بـ"حفنة من المرتزقة لا تمثل أهالي المنستير، فزمرة من المأجورين قاموا بسلوك عدواني خطير، في ظل ضعف تواجد الأمن المحلي رغم العلم المسبق بالبرنامج التفصيلي للزيارة". ودعا إلى "نبذ هذه السلوكيات الخطيرة التي تهدد السلم المدني وتفتح أبواب الفتنة والاحتراب الأهلي".
غير أن بعض ردود الفعل الأخرى أكدت أن هناك حصانة تونسية تجاه محاولات المس بمناخ الحرية، مع تنديد التنسيقية الجهوية للحزب الجمهوري بالمنستير بمنع المرزوقي من دخول الإذاعة، واصفة ما حدث بـ"أنه يُذكّر بممارسات رابطات حماية الثورة". وحمّلت التنسيقية السلطة الجهوية مسؤولية حماية الاجتماعات العامة، داعية إلى تتبّع المعتدين.
بدوره، اعتبر نائب رئيس حركة النهضة، نائب رئيس البرلمان، عبد الفتاح مورو، أن "ما حصل للمرزوقي فيه اعتداء على إحدى الحريات الأساسية التي ناضلنا من أجلها والتي لا ينبغي تخطيها أو التعدي عليها مهما كانت الظروف والأسباب، وهي حرية الرأي والتعبير والإعلام". وأضاف في تصريح لإذاعة "شمس"، أن "الاعتداء على المرزوقي ظلم له وتعطيل لأصل من أصول ما اتفقنا عليه في الدستور".
وعبّر حزب "التكتل من أجل العمل والحريات"، عن "تضامنه المطلق والمبدئي مع رئيس الجمهورية السابق ورئيس حزب حراك تونس الإرادة المنصف المرزوقي لما تعرض له من اعتداء، ومع كل المناضلين السياسيين والمدنيين الذين يتعرضون للتضييق على حريتهم في التعبير وفي النشاط".
وأكد الحزب، في بيان، "رفضه لمثل هذه الممارسات وتوجيه المسؤولية التامة للسلطات الأمنية، لعدم تدخلها لحمايته وتمكينه من ممارسة حقه في التنقل والتعبير والتواصل مع المواطنين عبر وسائل الإعلام". غير أن المعيق الأكبر للمسار الديمقراطي، هو الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي بلغ درجة غير مسبوقة من التوتر، عشية مناقشة موازنة العام المقبل، في ظلّ تهديد منظمة رجال الأعمال، في سابقة تاريخية، بالإضراب العام وإغلاق المؤسسات والانسحاب من وثيقة قرطاج. وتصاعدت وتيرة التصريحات الخلافية، مع تعبير جهات كثيرة عن رفضها لهذه الموازنة.