طرح بوث في جولته إلى الخرطوم، والتي اختتمت يوم الخميس، مجموعة من المقترحات والشروط، في سياق التهديد والترغيب، على الرغم من عدم ثقة الحكومة السودانية بواشنطن. وتعود أسباب انعدام الثقة إلى إخلال الأميركيين، وفقاً للخرطوم، بالوعود الممنوحة في اتفاقية السلام الشامل مع الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق في 2005 ومع المعارضة السلمية الممثلة في كتلة التجمع وقتها. كما أخلّت واشنطن بوعودٍ مماثلة لدى التوقيع على اتفاق سلام آخر مع الحركات المسلحة الدارفورية والحركات المتمردة في شرق البلاد، فضلاً عن إخلالها بمسألة الاستفتاء على مصير جنوب السودان، الذي عاد واختار الانفصال عن السودان.
مع العلم أن السودان يشهد مجموعة حروب في ولايات دارفور (منذ أكثر من 12 عاماً) ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان (منذ أكثر من خمسة أعوام). وقد فشلت كل مفاوضات السلام التي توسط فيها الاتحاد الافريقي وشركاؤه الغربيون، في التوصل لاتفاق سلام ينهي تلك الحرب.
في هذا السياق، كشفت مصادر مطّلعة لـ"العربي الجديد"، أن "واشنطن طرحت على الخرطوم التوقيع على اتفاق سلام في المنطقتين، وإيصال المساعدات الإنسانية إليهما من دون معوّقات، فضلاً عن إحلال السلام وتبنّي خطوات جدية تجاه الديمقراطية. بالإضافة إلى الالتزام بتحقيق تسوية سياسية جدية تشرك الأحزاب المعارضة المسلحة والسلمية في السلطة، وأداء دور إيجابي في ملف الحرب في دولة جنوب السودان وملف مكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر، كبنود أساسية، لرفع العقوبات وإزالة اسم البلاد من قائمة الإرهاب، باعتبارها شروطا مهمة لإقناع الكونغرس بالخطوة، ومواجهة اللوبيات الأميركية الرافضة لذلك". لكن الخرطوم وفق المصادر، عبّرت لواشنطن عن عدم ثقتها بتلك الوعود، مشيرة إلى أنها لن تقوم بأي دور، لا في جنوب السودان ولا في ليبيا، ما لم تقدم واشنطن ضمانات تجعلها تثق في عدم تحوّل تلك الوعود إلى هباء.
في الأساس، إن العلاقات السودانية الأميركية متوترة منذ وصول النظام الحالي إلى السلطة في عام 1989، الذي وصفته واشنطن بـ"النظام الإرهابي"، وفرضت عليه في عام 1997 جملة من العقوبات الاقتصادية، التي أعاقت تقدمه. وقد ظهر مفعولها بشكل أقوى، لدى انسحاب إيرادات النفط من الخزينة السودانية، بفعل انفصال الجنوب وتكوين دولته، لا سيما أن تلك الإيرادات كانت تمثل ما يزيد عن 70 في المائة من موازنة البلاد. الأمر الذي ساهم في تدهور الحالة الاقتصادية، وعدم استقرار العملة الصعبة وتخطّي الدولار الواحد حاجز 16 جنيهاً.
وتأتي زيارة بوث، ضمن سلسلة زيارات، وصلت لمعدل زيارتين شهرياً في بعض الأحيان، في إطار محاولات الرجل حسم التسوية السياسية السودانية، وإنهاء الحرب، واستجلاء الوضع ميدانياً، مع وصول واشنطن لمرحلة وضع اللمسات النهائية لعملية رفع العقوبات عن السودان.
في هذا الإطار، ووفقاً لمصادر مطّلعة، فإن واشنطن بدأت تنظر لعلاقاتها مع الخرطوم بشكل استراتيجي، لا سيما بعد فشل محاولاتها في إقامة دولة حقيقية في جنوب السودان، ونجاح الدبلوماسية السودانية في إقناع البيت الأبيض بخطأ خطوة الانفصال من جهة، وإظهار قدرتها في أداء أدوار مهمة في جنوب السودان وليبيا. كما أن الخرطوم قادرة على أداء أدوار مهمة في المنطقة الأفريقية ككل، فيما يتصل بمكافحة الإرهاب، ولا سيما أنها تملك مفاتيح تلك الجماعات، ومن شأنها تقديم خدمة استخباراتية نادرة لمكافحتها. وبوسع الخرطوم أيضاً، إيقاف نزيف الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، باعتبارها تمثل ثالث أكبر دولة أفريقية ينزح أبناؤها للقارة العجوز.
وأفادت المصادر، بأن تغييرات كبيرة ستشهدها علاقات البلدين قبيل الانتخابات الأميركية؛ الأمر الذي سيُبدّل من وضع السودان في السياسة الأميركية.
لكن مراقبين يرون أن الخطوة، وإن كانت تمثل قناعة لدى البيت الأبيض والتزاما بتنفيذها، إلا أنها ستجد معارضة قوية من الكونغرس الذي يُشكك بنوايا الخرطوم، ومن اللوبيات الأميركية الرافضة لأي تقارب مع النظام الإسلامي في البلاد. ولا يقتصر الأمر على واشنطن، ففي الخرطوم تيارات نافذة ترفض خطوات التطبيع مع الأميركيين، بعضها لأفكار سياسية، وأخرى لتضرر مصالحها من الخطوة.
في هذا الشأن، أبدى المحلل أحمد ساتي اعتقاده في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، بأن "الحكومة نفسها تعرقل الخطوة، لعدم حكمتها في اغتنام الفرصة، ومحاولاتها الاستثمار بشكل غير مناسب في الوضع الجديد الذي حققته لها التغييرات الإقليمية والدولية. ما يُعقّد الأوضاع ويعود بها إلى المربّع الأول، بالنظر لرغبتها في تحقيق مكاسب من دون تقديم أية تنازلات، لا في ملف التفاوض مع الحركات، ولا في عملية الحوار الوطني والوضع السياسي بالبلاد".
ورأى أن "ذلك يعود لمحاولة الخرطوم الاستثمار في الأزمة الجنوبية، وحمل جوبا نحو طرد الحركات المسلحة وقواتها من الأراضي الجنوبية في فترة زمنية وجيزة. وقد تجلّى ذلك في خطوة الخرطوم الأخيرة المتمثلة بإعلان البدء في إجراءات معاملة الجنوبيين كلاجئين وفتح المعسكرات لإيوائهم بغية الضغط على جوبا، باعتبار أن الخطوة تمثل ضغطاً كبيراً عليها، علماً أن الخرطوم، وعند بداية الحرب في الجنوب، اتفقت مع جوبا على تقديم معاملة الجنوبيين كمواطنين سودانيين، وعدم السماح بفتح معسكرات لهم".
كما نوّه ساتي لمحاولة الخرطوم التطبيع مع أوغندا باللعب على وتر المصالح المشتركة في جنوب السودان، لحملها على طرد الحركات من أرضها، على قاعدة أن "هذه الخطوات لو تمت، فمن شأنها إضعاف الحركات وترجيح موازين القوة في أية مفاوضات لصالح الحكومة في الخرطوم".
وأشار ساتي إلى أن "الخرطوم ترتكب أخطاء كبيرة في محاولة الضغط، ومن شأنها أن ترتد بنتائج عكسية عليها"، في إشارة لمؤتمر صحافي عُقد أخيراً، وتحدث فيه قائد قوات الدعم السريع "الجنجويد"، حول النجاحات التي حققتها تلك القوة في عملية مكافحة الاتجار بالبشر، علماً أن تلك القوة متهمة بضلوعها في جرائم حرب بإقليم دارفور، وفي انتهاك حقوق الإنسان هناك.
من جهته، رأى المحلل السياسي فيصل محمد صالح، أن "الإدارة الأميركية الحالية، لن تستطيع في الأشهر القليلة المتبقية لها في الحكم، أن تتخذ قراراً كبيراً برفع العقوبات عن السودان، ما يؤكد بأن القرار مؤجل للإدارة المقبلة، التي تحتاج بدورها لأشهر طويلة لترتيب أولوياتها وأمورها، قبل أن تعود وتتذكر بعدها السودان".
وأوضح صالح، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "مواقف الحكومة الأميركية من دول العالم، تُبنى على خليط من المصالح والمواقف نتيجة لتعدد المؤثرات فيه، من حماية الأمن القومي الأميركي الممتد حول العالم، إلى المصالح الاقتصادية الكبرى ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان". وأضاف "ولأنه ليس للولايات المتحدة مصالح اقتصادية مع السودان، فإن ذلك العامل سيغيب تماماً عند اتخاذ قرارها، أما الأمن القومي، فتأثير السودان عليه ليس كبيراً، خصوصاً أن البوصلة الأميركية تتجه نحو سورية والعراق ولبنان وتركيا".
مع العلم أن الحركة الشعبية قطاع الشمال، سارعت إلى استغلال مؤتمر "الجنجويد"، كورقة ضد الخرطوم لإيقاف التمويل المتوقع من قبل الاتحاد الأوروبي والأميركي لها، بحجة "محاربتها الإرهاب والاتجار بالبشر". وحذّرت الحركة من أن "هذا الدعم سيوجّه مباشرة لقوات الجنجويد، بكل ما يلاحقها من اتهامات بالإبادة الجماعية في البلاد. وأن تلك الأموال ستُستثمر في حرب السودان الداخلية، ويجعل القوى الغربية ضالعة في عملية الإبادة الجماعية والحروب في البلاد". وأشارت لخطة للرئيس السوداني عمر البشير والأجهزة الأمنية بإسقاط الصبغة الدولية على قوات الدعم السريع، عبر إيكالها مهام محاربة الاتجار بالبشر ومكافحة الإرهاب لها والتغاضي عن جرائهما، تحديداً في دارفور.
أما مؤتمر "الجنجويد"، الذي عُقد الأسبوع الماضي، وتحدث فيه محمد حميدتي، فقد تمّ عرض مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين، الذين تم إنقاذهم من يد تجار البشر بواسطة قوات "الجنجويد"، وسُمح لوسائل الإعلام بإجراء مقابلات معهم.
وطالب حميدتي خلال المؤتمر، الاتحاد الأوروبي، بتقديم الدعم المالي لتسهيل مهمة محاربة عملية الاتجار بالبشر، باعتبارها عملية مكلفة، مشيراً لمقتل نحو 25 عنصراً من قواته وجرح 115 آخرين، فضلاً عن فقدان 150 عربة، في عملية إنقاذ نحو 816 مهاجراً من أيدي التجار. وألمح صراحة إلى احتمال إيقاف عمليات المكافحة في حال عدم الالتزام بالدفع، باعتبار أن البلاد غير متضررة منها، بل أوروبا.
وسبق أن نشرت منظمة "كفاية" الأميركية موجزاً، قبل وصول بوث للخرطوم، أكدت خلاله أن "واشنطن باتت تمتلك نفوذاً أقوى لجهة دعم صفقة سياسية تنهي الحروب في السودان، تقود البلاد نحو التحول الديمقراطي ومحاربة الفساد، بالنظر للوضع الاقتصادي الضعيف والعزلة المالية المتزايدة على الخرطوم". واعتبر الموجز أن "الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الخرطوم حالياً، أوضحت ضعف النظام، ما يحملها على تقديم مزيد من التنازلات في سبيل إنقاذ الموقف، لحاجتها الماسة إلى تخفيف العقوبات الأميركية".
يُذكر أنه في عام 2009، أعلن أوباما عن استراتيجية إدارته نحو السودان، في سياق استقراره، موحّداً كان أو منقسماً إلى دولتين قابلتين للعيش بسلام. وقتها أكدت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، أن سياسة واشنطن لحل النزاع في الخرطوم شاملة، وتركّز على "إنهاء انتهاكات حقوق الإنسان والإبادة الجماعية في دارفور، وتطبيق اتفاق السلام بين الحركة الشعبية والحكومة حتى لا يصبح السودان ملاذاً آمناً للمتطرفين".