مثنّى العبيدي.. الخط والمصحف وما بينهما

16 اغسطس 2017
(معرض حول تاريخ المصاحف، واشنطن 2016، تصوير: صامويل كوروم)
+ الخط -

في تاريخ الفنون الإسلامية، اختصّ فنّ الخط العربي بملازمة النص القرآني، كون الخط تطوَّر بالأساس - من ضبط الكتابة أولاً وصولاً إلى الجماليات الفنية - لكتابة المصحف حفاظاً على النص القرآني من التحريف والنسيان.

في بادئ الأمر، جُمع القرآن في مصحف واحد سُمي بالمصحف الإمام زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ونُسخت منه أربعة مصاحف أخرى وزّعت على عدد من الحواضر الإسلامية الأولى لذات الغرض الخاص بالحفظ.

هذه العلاقة الثنائية بين فن الخط وكتابة المصحف كانت موضوع المحاضرة التي ألقاها الخطاط العراقي مثنّى العبيدي، في "معهد المخطوطات العربية" في القاهرة الأسبوع الماضي، وانطلق فيها من عدد من الأسئلة لتغطية هذا المبحث، مثل: هل كُتبت مصاحف الخلفاء الراشدين على الرق في قطع طولي أم عرضي؟ وهل يكفي لإثبات الأمر الارتكان للدراسات الجمالية التاريخية، أم إخضاع هذه النسخ المبكرة للتحليل والكشف الكيميائي؟

في البداية أشار العبيدي لعلاقة الذاكرة بالنص، وخصوصاً القرآني منه، حيث "كان النبي يعيد النص الموحى إليه به على لسانه كي يستظهره خشية نسيانه، حتى أتاه الوحي بقول الله له "لا تحرّك به لسانك لتعجل به، إنّ علينا جمعه وقرآنه"، لذلك ارتبط نزول الوحي من البداية بالتدوين".

أهمية هذا التأسيس المبدئي للمحاضرة، يضيف العبيدي، تصبّ في مرجعية ثبوت النص القرآني "التي تتحقق بالتدوين والحفظ"، أي ما دوّنه كتبة الوحي من آيات، وما تناقله الحفّاظ على الألسنة، وفي هذا نفيٌ لبعض نُسخ المصاحف التي لا تتوافق مع ما ثبت من القرآن، وهي النسخ التي طاولها تحريف بسبب العُجمة التي دخلت على اللسان العربي زمن الفتوحات الأولى.

النسخ الأولى من المصحف التي يشير إليها العبيدي هي ما استُند في كتابتها على الرسم العثماني لا الإملائي، والرسم العثماني يقصد به الطريقة التي شاعت في زمن الخليفة عثمان، التي اعتمدت على حذف الألفات الوسطية من بعض الكلمات مستبدلين إياها بألف مقصورة.

كمثال على ذلك، نبّه العبيدي جمهور المحاضرة الذي ملأ القاعة وتنوّع بين الخطاطين ودارسي الخط وباحثي المخطوطات، إلى طريقة كتابة كلمة السماوات في المصاحف المتداولة، حيث تكتب بهذا الشكل "السموت" وتستبدل بالألفات المثبتة في الكتابة الإملائية ألفات صغيرة ترسم في مواضع الحذف، إلا أنه بحلول القرن الثامن الهجري، بحسب العبيدي، بدأت كتابة بعض المصاحف بالرسم الإملائي لا العثماني الذي اعتبر توقيفياً لا يجوز استبداله، وكان اللجوء للرسم الإملائي محاولة ثانية لدرء العجمة التي أصابت اللسان العربي.

عند هذه النقطة الإشكالية بين الرسم العثماني أو الإملائي، لفت العبيدي أنظار الحضور لما قد يواجهه أي خطاط يريد كتابة مصحف أمام لجان تدقيق المصاحف العربية، إذ فيما لا تجوز مخالفة الرسم العثماني التوقيفي، فإنه تبقى إشكالية أخرى تخصّ الجماليات الخاصة بخط النسخ الذي تكتب به المصاحف الحديثة، وتلك القواعد القديمة التي تتمسك بها لجان التدقيق.

يضيف العبيدي "هذه القواعد التي وضعها أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع" وتعتمد عليها لجان التدقيق في مراجعتها للمصاحف لا تخصّ خط النسخ وإنما تعود للخط الكوفي القديم"، ثم يخلص إلى أن "تشدّد اللجان في الرسم المصحفي يضر أحياناً بالجانب الجمالي للحرف، مع ذلك نحتاج لرسم وسيط يراعي الرسم القاعدي الجمالي مع سهولة القراءة، لا اللجوء للأشكال الطباعية".

لم تكن هذه الإشكالية الوحيدة التي طرحها العبيدي في محاضرته، فقد أثار ما يمكن اعتباره قلباً لسردية تاريخية ومادية ثابتة في ما يخصّ مصحف عثمان المعروف بالمصحف الإمام ونسخه المشهورة. بحسب الخطاط العراقي هناك ثلاث نسخ معروفة لمصحف عثمان: نسخة المشهد الحسيني في القاهرة، ونسخة طشقند، وأخيراً نسخة متحف توب كابي في تركيا، وتشترك هذه النسخ جميعها في القطع العرْضي من جلود الحيوانات التي كتبت عليها، والتي يستلزم واحدها ما بين 1800 إلى 2000 رق من هذه الجلود.

يحاجج العبيدي بأن هذه العملية لاستهلاك كل هذه الجلود من أجل الكتابة عليها، والتي تقتضي مسبقاً ذبح كمية ضخمة من الحيوانات، لا تتواءم مع حال المجتمع الإسلامي الأول. لكن العبيدي لا يركن لهذه الأسباب الحسابية فقط، بل يعضد رؤيته بالكشوفات العلمية الحديثة.

يشير العبيدي إلى نسخة من المصحف تم اكتشافها حديثاً في جامعة برمنغهام قبل عامين في تموز/ يوليو 2015، حيث أثبت الفحص الكربوني لصفحاتها إلى أن هذه النسخة تعود لما قبل 1370 عاماً، وتحديداً بين عامي 568 و645 ميلادية. المثير أيضاً فيها هو قطع صفحاتها الطولي خلافاً للنسخ الثلاث السالفة المنسوبة لمصحف عثمان، كما أن الخط الذي كتب به المصحف يعود لكتابة المدينة، ما عرف بالخط الحجازي، وهو- على ما يقول العبيدي - خط بدائي لم يكن نال من الاعتناء الجمالي ما بلغته النسخ المنسوبة خطأ لزمن عثمان بن عفان.

يشير العبيدي كذلك إلى نسخة أخرى جرى اكتشافها حديثاً في ولاية بادن الألمانية، وصفحة واحدة اكتشفت أيضاً في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأميركية وعُرفت بنسخة ستانفورد، "والنسختان تتشابهان كلية مع النسخة الإنكليزية، ثم إن الناظر للنسخ القديمة من الإنجيل والتي كُتبت بالسريانية سيجد شبهاً مثيراً بين رسمها وبين رسم حروف القرآن في النسخ المكتشفة حديثاً، من حيث كتلة الأحرف وبنائها وأشكالها".

آخر المحاججات العلمية التي أضافها العبيدي قال فيها إن المصاحف الثلاثة المنسوبة لعثمان كُتبت بحبر مائل للسواد، والحبر المائل للسواد كما يعرف الخطاطون يُصنع من هَباب القطن، لكن الجزيرة العربية لم تكن تعرف زراعة القطن في ذاك الوقت المبكر، يستدرك "لكن المدقق في المصاحف المكتشفة حديثاً في أوروبا وأميركا يجد أحبارها أقرب للبني، وهي الأحبار المصنوعة من الأرُز، وذلك يتوافق مع انتشار زراعة الحبوب وقتها في الجزيرة العربية".

يخلص العبيدي من ذلك إلى أن "الفحص العلمي المعملي هو الذي يجب أن ندير دفة حكمنا باتجاهه، لأننا نسير باتجاه خاطئ، هو الاتجاه الفني فقط".

المساهمون