متى يطلق العراق صاروخه الأربعين؟

28 اغسطس 2019
+ الخط -
قبل ثلاثة عقود، أطلق صدّام حسين 39 صاروخا على إسرائيل، وفي حينها تساءل: "من سيطلق الصاروخ الأربعين ومتى؟"، وعلى وقع غارات الطائرات المسيّرة التي اقتحمت أخيرا سماء العراق، واعترف الإسرائيليون بتنفيذهم لها، يتجدّد السؤال: يا تُرى.. هل سيرد العراق على تلك الغارات بإطلاق صاروخه الأربعين؟ ومتى؟ وهل يمتلك حكّامه الشجاعة الكافية لفعل ذلك، وهم يعرفون أن صواريخ صدّام حسين تلك كانت من العوامل التي أسقطته، وأدت إلى غزو بلاده واحتلالها، وجاءت بهم من منافيهم البعيدة، لتضعهم على قمة السلطة من دون عناء؟ 
ليس مطلوبا من حكام العراق الحاليين فعلا كهذا في ظل افتقارهم الإرادة الحرّة والحزم والدافع الوطني، إنما لأن الظروف المحيطة إقليميا ودوليا لا تسمح لصانع القرار حتى بمجرد التفكير بهذا الاتجاه. ولكن ثمّة مسألة ينبغي أن تظل في الحسبان، هي أن القصف الإسرائيلي المتكرّر يستحق ردّا أقوى وأشد مما جاء في البيان الرئاسي الباهت الذي نتج من اجتماع الرؤساء الثلاثة (الجمهورية والحكومة والبرلمان)، وكان أشبه بموعظةٍ مدرسية في "أهمية تعزيز التماسك الداخلي، والثبات على مبدأ مراعاة سيادة العراق وأمنه واستقلاله، ورفض سياسة المحاور وتصفية الحسابات، والنأي.. إلخ"!
ويُفهم من هذا الخليط الهش من العبارات المتهافتة أن واضعي البيان يريدون النأي بأنفسهم عن وضع النقاط على حروف الوقائع الماثلة أمامهم، والتي اعترف الإسرائيليون بأنها من صنعهم، ونعرف بدلالة الأشياء أنهم يريدون أيضا تطمين من يعترض أو يزايد. أما التلويح بالسيادة والاستقلال فأمرٌ يثير السخرية، إذ كانت البلاد قد فقدتهما، منذ اغتصبها الأميركيون، وكذا منذ نجحت إيران في تجييش "طابور خامس"، نذر أفراده أنفسهم لخدمة مشروعها العرقي الطائفي. وندرك من تجارب الأعوام العجاف السالفة أن ليس في العراق حكومة لها السلطة، ولها القرار، بل هناك أحزاب ومليشيات وعشائر، وكلٌّ له سلطته وقراره، وهذا سبب استشراء الفوضى، والعجز عن اتخاذ موقف وطني واضح، وخصوصا في قضايا مصيرية، كالتي 
نواجهها اليوم ونعرف أيضا أن الجغرافيا والاستراتيجيا وضعتا العراق في خانة التجاذبات الدولية والإقليمية، وفي قلب العواصف، وجعلت من أرضه موطن صراع بين هذا الطرف وذاك، ومربط خيل الجميع، وأن رجال "النخبة" الحاكمة منقسمون بين الولاء لهذا الطرف أو ذاك، ومن بينهم من أتقن اللعب على حبال الطرفين. ويعكس هذا الأمر مدى المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه إلى درجة أن ليس في استطاعتهم ممارسة أي دور ذي فاعلية، حتى لو توهموا أنهم قادرون عليه، مثل التصدّي لفض الاشتباك، أو السعي إلى الوصول إلى حل، وبينهم من يدعو إلى "تجنّب دعم طرفٍ ضد آخر"، ضرورة لا لتفادي أن تكون بلادهم ساحة لحربٍ لا ناقة لها فيها ولا جمل، إنما لإنقاذ أنفسهم من أن يُطاح بهم وبسلطتهم، في حين أن أطرافا شعبية تدعو إلى المواجهة مع الأميركيين، والإسرائيليين أيضا الذين اعترفوا بأنهم من نفذ الهجمات المسيّرة على العراق، وهي المواجهة التي قد تفضي إلى "كسر عظم" أكثر من جهة. ولا يبدو رجال الحكم قادرين على تحمّل نتائجها، ولا نجد في الدعوة إلى عقد جلسة طارئة للبرلمان أكثر من كونها "بروباغندا" قصد الاستهلاك المحلي.
ووسط كل هذه التناقضات، نجد من يراهن على أن العاصفة الماثلة سرعان ما سوف تفرغ حمولتها وترتدّ، وتعود المياه إلى مجاريها، وأن الأمور سوف تتجه إلى نوع من أنواع التسوية بين الأطراف المتصارعة، وحتى إذا ما تحقق ذلك، فإن تلك التسوية، كما الحرب تماما، سوف تنعكس سلبا على العراق الذي لا يزال يعاني من ويلات الاحتلال، ومن هيمنة إيران، ومن ظلم حكامه وغطرستهم.
تبقى هناك القناعة بأن الحالة أكبر من أن تُختزل في أنها مجرّد قصف معسكر للحشد الشعبي، مهما كانت صلة بعض مليشياته بإيران، ومهما كان موقفنا من الهيمنة الإيرانية على البلاد. إنها قضية العراق، وأراضيه هي المستهدفة، وهي التي وقع عليها الهجوم، والرد ينبغي أن يكون بمستوى هذه القضية. وهذا ما يتيحه له حق الدفاع عن النفس. أما متى يطلق العراق صاروخه الأربعين، فلم يعد ثمّة شك في أن خطوةً كهذه لم تعد من ضروب التمنّي فحسب، إنما تدخل في خانة المستحيل.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"