ما يجري في مصر بعيون تونسية

30 مارس 2014

مصرية تبكي بعد صدور أحكام الإعدام

+ الخط -

صدور أحكام إعدام في حق 529 مصرياً جريمة، ومهزلة، بجميع المعايير. فلم يثبت، إلى الآن، أَن قُضي في القرون الأخيرة، في جلسة واحدة، بإعدام مثل هذا العدد، حتى في أفظع الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. يبدو أن مصر المحروسة أَصرت على أن تضيف إلى عجائب الدنيا عجيبة أخرى، سيذكرها لها التاريخ، باعتباره إنجازاً استثنائياً لها.

إن الذين صفقوا للانقلاب العسكري، في مختلف الأقطار العربية، بانتهازيةٍ، في بداية صيف كارثي، أَذن بتحولاتٍ دراماتيكية، في أَكثر من بلد من بلدان "الربيع العربي"، لم يتنكروا للمبادئ الديمقراطية والدولة المدنية فحسب، بل تحرشوا بخصومهم، وأَلبوا العسكر على هؤلاء الخصوم. فحين تضع صناديق الاقتراع، في مناسبات قليلة، تجري فيها انتخابات حرة ونزيهة، بعضهم في حجمهم الحقيقي، وتجري سفن الحرية بما لا يشتهون، يستعيد هؤلاء شهوة قنص الخصم السياسي، باعتباره طريدة "حلالاً"، ولو بحربة العسكر المسمومة. تصبح البزة العسكرية والخوذة والكرباج وصفةً تكفينا شر المناظرات السياسية، وعناء التنافس يقتضي عملاً دؤوباً ونفساً طويلاً، لا نقدر عليهما.

العسكر في الأقطار العربية طريق للتخلص من الخصم، من دون أَن نتورط بشكل مباشر. هي حيلة لمناورةٍ خفيةٍ، نجد لها تبريراً يُقال من دون خجل: إن "استبداد العسكر الحداثي أفضل من الدولة الدينية". تمنحنا هذه الفتوى حصانةً من قلق الضمير المنتشي، آنذاك، بنصر جماعي للأنوار ونعمها، ولو كانت على جثث نصف الشعب. رأينا في تونس، وبلدان عربية غيرها، زعامات قوى يسارية وتقدمية وليبرالية، ناهيك عن رجالاتٍ تتولى تسيير أعرق المؤسسات الدينية، ترحب بالانقلاب العسكري في مصر، وترى في العسكر طوق النجاة الوحيد لمصر. خوذة العسكر وصفة للتقدم والأنوار حينما، فقط، يصبح المجتمع المدني "خلايا نائمة" للعسكر.  

تمت شيطنة "الإخوان المسلمين" في مصر، وقد ارتبكوا فعلاً، آنذاك، أَخطاء كثيرة. لكن، سيحفظ لهم التاريخ أنهم لم يسجنوا إعلاميين، ولم ينكّلوا بخصومهم، بل لم يحاكموهم أصلاً. هذا لا يعفيهم من المحاسبة، ولكن، تظل تلك الأخطاء سياسيةً بالأساس، لعل أَهمها "أخونة" جهاز الدولة بالتعيينات الحزبية، وهي أَخطاء تعود، في اعتقادنا، إلى طبيعة الثقافة السياسية السائدة في القوى السياسية في الوطن العربي، فضلاً عن صعوبات المرحلة وارتباكات التجربة ونقص الحرفية السياسية في التعاطي مع مراحل الانتقال الديموقراطي عموماً. لكن، هل يبرر ذلك إعدامهم؟

 بعض القوى السياسية في مصر وتونس مستعدة لأن تعيد، للمرة الألف، بناء الحلف "المقدس بين العسكر والحداثيين"، كما فعل هؤلاء مع زين العابدين بن علي، باسم حداثة النظام، مقارنةً برجعية الإسلاميين.

هؤلاء بالذات تراجعوا تكتيكياً بعد الثورة عن مقولاتهم. لكن، ما أَن أَعلنت نتائج الانتخابات، حتى بدأوا باستعادة مبررات ذلك التحالف، وتصيدوا أَخطاء الإسلاميين للتشريع إليها. ونزلت عليهم الحالة المصرية هديةً من السماء، فشغلوا جهازهم النظري الجاهز، والبائت، والذي ورثوه وطوروه في الحالة التونسية، كما جرت في تجربة التسعينيات، خصوصاً وأن السياق الإقليمي لم يكن في الطور الأخير من الثورات مواتياً، بل تحول في مجمله إلى سياق معاد.

صدرت، هنا وهناك، مواقف منددة بأحكام الإعدام في مصر، لكنها غير كافية، لأنها استندت إلى "روحية كونية"، تقوم على ضرورة إلغاء عقوبة الإعدام، باعتبار ما تنص عليه المواثيق الدولية، لأن مثل تلك الأحكام تتعارض مع مبدأ الحق في الحياة. وينبع هذا الإحساس من المصدر الروحي نفسه، الداعي إلى مناهضة قتل السلاحف البحرية، والمحافظة على بيض الحجل.

أومن شديد الإيمان بأن من حق من ارتكب جرائم القتل أن يحتفظ بحقه في الحياة، فالقتل لا يُجازى بالقتل، وفي التشريع الحديث، لا تكون العقوبة من جنس الجرم المرتكب، وفي ذلك قطيعة ابستيمولوجية مع التشريع القديم، القائم على التناظر بين العقوبة والجرم. لكن، ما صدر في مصر لا يمكن أَن نقاربه مقاربة إنسانية، تقوم على فلسفة حقوق الإنسان فحسب، والتي يذهب إليها بعضهم مكرهين، كما في عدة أمثلة تونسية. رأينا كيف تباطأت تلك الأطراف، وترددت تماماً، كحال من تُساق خطاه إلى فصولٍ، لا يرغب في متابعتها من تتثاقل خطاه وتتثاءب عزيمته، فالأمر ليس واجباً مدرسياً، علينا أن نقوم به.

في اعتقادنا، المسألة سياسية بامتياز، تعود إلى ثقافة سياسية علينا أَن نوطن أنفسنا عليها. الديموقراطية سمة الدولة المدنية، تقتضي استبعاد العسكر تماماً من اللعبة السياسية، وحصرها في الفاعلين السياسيين المدنيين. وإن حماية البلاد من الانحرافات السياسية تظل مرهونة على المجتمع المدني، والتنشئة على قيم الحداثة السياسية. .. المسار طويل، ومن يستعجل الانتصار لن يجد سوى العسكر، آجلا أو عاجلاً، أقدر على تحقيق أمانيه تلك.

يجب أن تكون إدانة أحكام الإعدام الجماعية، والتي صدرت، في مصر الأسبوع الماضي، باعتبارها مستندة إلى أسباب سياسية، كما أشرت سابقاً. وهي تعود إلى النتائج المتفرعة عن الانقلاب الذي أجهض الانتقال الديموقراطي في مصر، حتى ولو كان في الأصل متعثراً مع "الإخوان المسلمين". وما مهزلة القضاء الذي تمت عسكرته، في ظل عبث الفصل بين السلطات في مثل الأنظمة العسكرية، سوى إحدى ماكينات ما سيجري لاحقاً من جرائم في حق المصريين. سيطمئن بعضهم، ويرتاح ضميره لينام هانئاً، ذلك أَن ما سيجري لن يشمل سوى بعض المصريين، وربما لن يعدوا، بعد الآن مصريين، أَصلا. قد تتوقف ماكينة الدم، لكن، سيكون ثمن هذا "التنازل" باهظاً. إنه توديع المصريين، ولعقود قادمة، ما من أجله ثاروا: الحرية بكل بساطة.

جمهور آخر من التونسيين لن يخوض في تفاصيل الموقف ومبرراته، فذلك شأن مصري خالص. "فالمدرسة الديبلوماسية التونسية"، كما استقرت معالمها، وأخطاؤنا المرتكبة في هذا المجال بعد الثورة، تدفعان بعضهم إلى الانكباب على المطبخ التونسي، والانصراف إلى تدبر بهاراته المفقودة، كأن رائحة الشواء، المنبعثة من اللحم البشري القادم إلينا من الشرق لا تعني حواسنا الوطنية. وفي مناطق أخرى من الوطن العربي، سيكون التفكير في كيفية دفنهم، وآخر ما نطقوا به إلى جلاديهم، مادة مفضلة لأحاديث يقطعها، بين حين وآخر، جرس هواتف نقالة. هذا إذا سلمنا من الجدران التي تتودد إلينا آذانها.

 

 

 

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.