09 نوفمبر 2024
ما تستفيده السلطة الجزائرية إذا نجح الحراك
أدرك الحراك في الجزائر شهره السادس، ولم تخفت شعلته بل تزداد، أسبوعاً بعد أسبوع، على الرغم من ظروف موضوعية، كان يمكن أن تجعله يفشل (البرد، رمضان، الحر، العطلة الصيفية، المضايقات، تشويش وسائل التواصل الاجتماعي..). ولعلّ نقاطاً إيجابية جعلته، منذ انطلاقه في 22 فبراير/ شباط الماضي يستمرّ، وفي مقدمتها سلميته، حضاريته، وتوافق السلطة في أعلى هرم لها على التعامل معه بحضارية، ليكون الحراك أفضل صورة تُلتقط للجزائر منذ عشرات السنين.
عندما انطلق الحراك، لم يشكّ أحد في أنّ الهبّة سيكون لها هذه الاستمرارية والترفّع عن المطالب الفئوية، إضافة إلى أنّ أسابيع قبل ذلك كان الوزير الأول السابق أحمد أويحيى، قد تحدّث بنبرة تهديد بشأن الترخيص لتظاهرات في العاصمة على خلفية ورود أنباء عن إمكانية ترشّح الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، على الرّغم من وضعه الصحي والفشل الذي واكب عهداته الأربع رئيساً. وكان أويحيى قد ردّد الحجّة نفسها التي بنت السلطة، على أساسها، منع التظاهرات في العاصمة، بداعي احتمالية الفوضى وعدم التمكّن من ضبط سلوكات المتظاهرين، وهو ما كذّبته الأحداث بعد ذلك، لتصبح تظاهرات الجزائريين في القطر كلّه مثار إعجاب في العالم، وهو من أسباب اعتقاد أن الحراك سيكون ناجحاً بما يكفل فوائد له وللسلطة، كليهما.
وقد تبادر إلى أذهان جزائريين كثيرين سؤال بشأن المصلحة، التي يمكن للسلطة أن تستفيدها في حالة نجاح الحراك، وهو يريد إزاحة آليات عملها، والسعي إلى تجديد نخبها والعمل على القضاء على أسباب فشل السياسة العامة التي كانت مقاربتها، منذ الاستقلال، ولكن من دون أن تحقق التنمية، التطّور، ولا خروج الجزائر من دائرة التخلّف، وعلى الصُعد كافة، على الرغم
من المقدّرات/ الموارد التي تملكها الجزائر. وكان يمكن، في حالة استخدامها الجيد، أن تكون في مكانة أفضل وأكبر. ولولا أنّ الحراك جاء على الصورة التي رأينا من سلمية وحضارية، من الطرفين الجزائريين والسلطة، لما طرح هذا السؤال. ولكن، والحال هذه، ثمّة حاجة لطرحه، لأن البلاد على عتبة تغيير. لأوّل مرة، تتناول الصحافة العالمية صورة الجزائر بإيجابية لم نر مثلها أبداً، إلى درجة أن قنوات تلفزيونية فرنسية على وجه الخصوص، دعت الفرنسيين إلى التأسّي بسلمية الجزائريين في تظاهراتهم، على خلفية الفوضى وتعامل الشرطة بالقوة المفرطة مع متظاهري "السترات الصفراء"، وهو أمر لم يكن متخيلاً، ومن الفرنسيين أنفسهم الذين لا يتركون فرصة إلا ويكيلون للجزائريين التهم بالفوضى وبغيرها من السلبيات.
بالنتيجة لو لم يكن للحراك إلا هذه الفائدة، أي تغيير الصورة النمطية للجزائريين في أذهان الفرنسيين ومخيالهم خصوصاً، وعند بقية العالم بعد ذلك، لكان ذا فائدة للبلاد، لتدخل الجزائر باب التغيير من بابه الواسع، مع رجاء أن يكون الجميع في الجزائر، سلطة وشعباً، مستفيدين، وفي صالحهم أن ينجح الحراك، لأن الرهان هو مشروع مكانة الجزائر بعد قرابة ستة عقود على استقلال البلاد. مكانة كان الجزائريون يرونها ممكنة ومتاحة، وخصوصاً إذا تم إعمال المقاربات الكفيلة بتحويل مقدرات البلد وموارده إلى وسائل تطلق العنان لإرادة الوصول إلى الفعل الإقليمي، والقوّة الاقتصادية اللائقة بالجزائر.
تنعكس هذه الصورة الحسنة على مؤشرات الأمن، الاستثمارات الخارجية والتأمين على الصادرات نحو الجزائر، بل تنعكس أيضاً على صناعة السياحة التي أخذ الحراك، بسلميته، في جذب الزائرين لزيارة البلاد، بدءاً بالمهاجرين الجزائريين، ثم الأجانب الذين سيطر عليهم الفضول للاطلاع على جزائر أخرى، وخصوصاً مع صدى الحراك على منصات التواصل الاجتماعي، والصورة السميولوجية التي استطاع صنعها في أذهان الآخرين، واستدعى لديهم حب الاحتكاك بالشباب اليافع المنادي بالحرية وبالتغيير، والصانع صوراً جميلة، على غرار حبّ البيئة الذي أصبح مؤشّراً لدى جمعيات عالمية كثيرة بالنسبة للوعي لدى المجتمعات المدنية بوجوب الحفاظ على البيئة.
كما أظهرت التظاهرات تماسك المجتمع بعد كلّ مشكلةٍ حاول، ويحاول، بعضهم استغلالها لبث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، مرتكزاً على التنوع الذي يُراد له أن يصبح تمييزاً لمنطقة على أخرى باللغة، بالعرق والانتماء الأيديولوجي. وكلها مسائل صحية، يجمع شتاتها مفهوم الخلاف المثمر الذي لا يفسد للودّ قضية، وليبدو المجتمع، بعد كلّ تلك الصدمات، على تماسكه وانسجامه الذي صهرته وصقلته التجارب التاريخية، وجعلت من لبنات تكويناته بناءً صامداً أمام أعتى الهجمات، أيّاً كان مصدرها أو أهدافها، لأنّ الجميع يعي ثوابت بلادٍ دفعت تضحيات جساماً، حتى تصل إلى ما وصلت إليه من هذا التماسك.
وقد أبان الحراك تحديات كبرى تحتاج إليها البلاد، لمجابهتها، إلى تماسك وانسجام اجتماعيين،
من ناحية، ووحدة الجيش والمجتمع في كتلة واحدة من ناحية أخرى، لأنّ المتربّصين بالبلاد كثر ومخططاتهم لا تنفك تُحضّر وتعمل ضد الجزائر. وهي الكتلة التي استطاعت إلى الآن العمل معاً على أكثر من صعيد لإسقاط "العصابة"، وأذناب الأعداء وفتح ملفات فساد وتآمر وُصفت بالثقيلة، وقد تمّ توصيف حالة التوحّد هذه بالمرافقة على لسان قائد الأركان، لتبرز إلى السطح صورة الجيش المرابط على الحدود والمرافق لحراك شعبه سعياً إلى بناء جزائر جديدة.
وهنا يُطرح سؤال مهمّ: هل من فائدة ومصلحة للجيش والسلطة كليهما، في نجاح الحراك ووصوله إلى مبتغاه في إحداث التحوّل نحو الديمقراطية، وكسر طوق الاستبداد؟ وها هنا أيضاً مؤشّر واحد يمكن الاعتماد عليه للإجابة، له صلة ورابطة أكيدتان بمكانة البلاد، وتحوّلها إلى الفعل الإقليمي، إذ إنّها عندئذ ترفع من شأن القوّة الفعلية للبلاد، لتصبح نافذة في شؤون الإقليم، وتكون أداة تأكيد ذلك الدور وفكّ الارتباط بدائرة مصالح قوى كبرى، وأخرى إقليمية، إلّا في إطار التحالفات، وإدراك تلك المكانة الجديدة مع التعامل بندّية على أساس معادلة: رابح - رابح، ليس إلّا.
في هذه الحالة، أي تحوّل المكانة وتأكيد الدور في الفعل والتأثير الإقليميين، يكون للسلطة هيبة وشأن، وللجيش احترافية، يصون كلاهما تلك المكانة ويضفيان على ذلك الدور أبعاده الاستراتيجية، وتلك مهمّة لا يمكن أن تُناط بالبلاد، إلا إذا توطّدت تلك اللّحمة وتعمّقت بين السلطة والشعب في إطار كتلة واحدة ببوصلةٍ يكون أساسها رئيساً شرعياً، يأتي من ظروف موضوعية لانتخابات حرّة، نظيفة وشفافة. وهذا هو المعنى الحقيقي لمفهوم المرافقة الذي لا يمكن أن تولد منه إملاءات ولا شروط مسبقة، بل إجراءات تهدئة تعيد إلى تلك الكتلة الواحدة نصاعتها، إذ من المفهوم والمعقول أن تحدث لحراك يدوم ستة أشهر بعض الأمور/ الأحداث التي يُساء فهمُها، والتي قد تُشوّش عليه، وتوشك أن تخرجه عن سلميته وحضاريته، حتى مع اختلاف الرؤية إلى تلك الأمور على غرار مسألة الراية الأمازيغية التي يمكن تصوّرها في إطار إجراءات ترسيم اللغة الأمازيغية، وإقرار بدء العام الأمازيغي عيداً وطنياً، لتكون تلك الراية امتداداً لذلك الترسيم، واعتبار المسألة بعداً هوياتياً، يثري الشخصية الوطنية، ما دام الجميع مُجمعاً على ثوابت الأمة، ومنها قدسية العلم الوطني، لكونه امتداداً أبدياً لثورة التحرير الكبرى، رفقة النشيد الوطني، الشهداء، المجاهدين والحدود.
في النتيجة، الجميع مستفيد من نجاح الحراك، لأن أي بلادٍ تريد بناء مشروع تغييري، توجد
تلك الظروف التي يرفع من خلالها مواطنوها ومسؤولوها ولاءهم لذلك المشروع، مع توفير الشروط المفضية لإنجاحه، ذلك أن المنعرجات المفصلية لا تتوفر كل حين، بل هي فرصٌ يجب عدم تضييعها متى توفّرت.
على هذا وبعد إيراد تلك الحجج، لا يمكن تصور الحراك إلا وقد نجح في تحيّن فرصة المنعرج المفصلي. ولا يمكن معه إلا تصور الجزائر وقد استعادت عافيتها ومكانتها التي تليق بها في الجوار، وفي الإقليم بسواعد أبنائها جميعهم. الحراك فرصة ومنعرج، فهل يعي الجميع هذا، ويتوافقون على القفز على الخلافات لصنع جزائر الغد؟ الجميع على المحك والرهان، تجسيد التغيير، وإنّ غداً لناظره لقريب.
عندما انطلق الحراك، لم يشكّ أحد في أنّ الهبّة سيكون لها هذه الاستمرارية والترفّع عن المطالب الفئوية، إضافة إلى أنّ أسابيع قبل ذلك كان الوزير الأول السابق أحمد أويحيى، قد تحدّث بنبرة تهديد بشأن الترخيص لتظاهرات في العاصمة على خلفية ورود أنباء عن إمكانية ترشّح الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة، على الرّغم من وضعه الصحي والفشل الذي واكب عهداته الأربع رئيساً. وكان أويحيى قد ردّد الحجّة نفسها التي بنت السلطة، على أساسها، منع التظاهرات في العاصمة، بداعي احتمالية الفوضى وعدم التمكّن من ضبط سلوكات المتظاهرين، وهو ما كذّبته الأحداث بعد ذلك، لتصبح تظاهرات الجزائريين في القطر كلّه مثار إعجاب في العالم، وهو من أسباب اعتقاد أن الحراك سيكون ناجحاً بما يكفل فوائد له وللسلطة، كليهما.
وقد تبادر إلى أذهان جزائريين كثيرين سؤال بشأن المصلحة، التي يمكن للسلطة أن تستفيدها في حالة نجاح الحراك، وهو يريد إزاحة آليات عملها، والسعي إلى تجديد نخبها والعمل على القضاء على أسباب فشل السياسة العامة التي كانت مقاربتها، منذ الاستقلال، ولكن من دون أن تحقق التنمية، التطّور، ولا خروج الجزائر من دائرة التخلّف، وعلى الصُعد كافة، على الرغم
بالنتيجة لو لم يكن للحراك إلا هذه الفائدة، أي تغيير الصورة النمطية للجزائريين في أذهان الفرنسيين ومخيالهم خصوصاً، وعند بقية العالم بعد ذلك، لكان ذا فائدة للبلاد، لتدخل الجزائر باب التغيير من بابه الواسع، مع رجاء أن يكون الجميع في الجزائر، سلطة وشعباً، مستفيدين، وفي صالحهم أن ينجح الحراك، لأن الرهان هو مشروع مكانة الجزائر بعد قرابة ستة عقود على استقلال البلاد. مكانة كان الجزائريون يرونها ممكنة ومتاحة، وخصوصاً إذا تم إعمال المقاربات الكفيلة بتحويل مقدرات البلد وموارده إلى وسائل تطلق العنان لإرادة الوصول إلى الفعل الإقليمي، والقوّة الاقتصادية اللائقة بالجزائر.
تنعكس هذه الصورة الحسنة على مؤشرات الأمن، الاستثمارات الخارجية والتأمين على الصادرات نحو الجزائر، بل تنعكس أيضاً على صناعة السياحة التي أخذ الحراك، بسلميته، في جذب الزائرين لزيارة البلاد، بدءاً بالمهاجرين الجزائريين، ثم الأجانب الذين سيطر عليهم الفضول للاطلاع على جزائر أخرى، وخصوصاً مع صدى الحراك على منصات التواصل الاجتماعي، والصورة السميولوجية التي استطاع صنعها في أذهان الآخرين، واستدعى لديهم حب الاحتكاك بالشباب اليافع المنادي بالحرية وبالتغيير، والصانع صوراً جميلة، على غرار حبّ البيئة الذي أصبح مؤشّراً لدى جمعيات عالمية كثيرة بالنسبة للوعي لدى المجتمعات المدنية بوجوب الحفاظ على البيئة.
كما أظهرت التظاهرات تماسك المجتمع بعد كلّ مشكلةٍ حاول، ويحاول، بعضهم استغلالها لبث الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، مرتكزاً على التنوع الذي يُراد له أن يصبح تمييزاً لمنطقة على أخرى باللغة، بالعرق والانتماء الأيديولوجي. وكلها مسائل صحية، يجمع شتاتها مفهوم الخلاف المثمر الذي لا يفسد للودّ قضية، وليبدو المجتمع، بعد كلّ تلك الصدمات، على تماسكه وانسجامه الذي صهرته وصقلته التجارب التاريخية، وجعلت من لبنات تكويناته بناءً صامداً أمام أعتى الهجمات، أيّاً كان مصدرها أو أهدافها، لأنّ الجميع يعي ثوابت بلادٍ دفعت تضحيات جساماً، حتى تصل إلى ما وصلت إليه من هذا التماسك.
وقد أبان الحراك تحديات كبرى تحتاج إليها البلاد، لمجابهتها، إلى تماسك وانسجام اجتماعيين،
وهنا يُطرح سؤال مهمّ: هل من فائدة ومصلحة للجيش والسلطة كليهما، في نجاح الحراك ووصوله إلى مبتغاه في إحداث التحوّل نحو الديمقراطية، وكسر طوق الاستبداد؟ وها هنا أيضاً مؤشّر واحد يمكن الاعتماد عليه للإجابة، له صلة ورابطة أكيدتان بمكانة البلاد، وتحوّلها إلى الفعل الإقليمي، إذ إنّها عندئذ ترفع من شأن القوّة الفعلية للبلاد، لتصبح نافذة في شؤون الإقليم، وتكون أداة تأكيد ذلك الدور وفكّ الارتباط بدائرة مصالح قوى كبرى، وأخرى إقليمية، إلّا في إطار التحالفات، وإدراك تلك المكانة الجديدة مع التعامل بندّية على أساس معادلة: رابح - رابح، ليس إلّا.
في هذه الحالة، أي تحوّل المكانة وتأكيد الدور في الفعل والتأثير الإقليميين، يكون للسلطة هيبة وشأن، وللجيش احترافية، يصون كلاهما تلك المكانة ويضفيان على ذلك الدور أبعاده الاستراتيجية، وتلك مهمّة لا يمكن أن تُناط بالبلاد، إلا إذا توطّدت تلك اللّحمة وتعمّقت بين السلطة والشعب في إطار كتلة واحدة ببوصلةٍ يكون أساسها رئيساً شرعياً، يأتي من ظروف موضوعية لانتخابات حرّة، نظيفة وشفافة. وهذا هو المعنى الحقيقي لمفهوم المرافقة الذي لا يمكن أن تولد منه إملاءات ولا شروط مسبقة، بل إجراءات تهدئة تعيد إلى تلك الكتلة الواحدة نصاعتها، إذ من المفهوم والمعقول أن تحدث لحراك يدوم ستة أشهر بعض الأمور/ الأحداث التي يُساء فهمُها، والتي قد تُشوّش عليه، وتوشك أن تخرجه عن سلميته وحضاريته، حتى مع اختلاف الرؤية إلى تلك الأمور على غرار مسألة الراية الأمازيغية التي يمكن تصوّرها في إطار إجراءات ترسيم اللغة الأمازيغية، وإقرار بدء العام الأمازيغي عيداً وطنياً، لتكون تلك الراية امتداداً لذلك الترسيم، واعتبار المسألة بعداً هوياتياً، يثري الشخصية الوطنية، ما دام الجميع مُجمعاً على ثوابت الأمة، ومنها قدسية العلم الوطني، لكونه امتداداً أبدياً لثورة التحرير الكبرى، رفقة النشيد الوطني، الشهداء، المجاهدين والحدود.
في النتيجة، الجميع مستفيد من نجاح الحراك، لأن أي بلادٍ تريد بناء مشروع تغييري، توجد
على هذا وبعد إيراد تلك الحجج، لا يمكن تصور الحراك إلا وقد نجح في تحيّن فرصة المنعرج المفصلي. ولا يمكن معه إلا تصور الجزائر وقد استعادت عافيتها ومكانتها التي تليق بها في الجوار، وفي الإقليم بسواعد أبنائها جميعهم. الحراك فرصة ومنعرج، فهل يعي الجميع هذا، ويتوافقون على القفز على الخلافات لصنع جزائر الغد؟ الجميع على المحك والرهان، تجسيد التغيير، وإنّ غداً لناظره لقريب.