غالباً ما نطرح مسألة وسائط الاتصال كما لو كانت مجرد أدوات و"وسائط"، دون أن نأبه لما يتمخض عن تطورها من انعكاس على الكائن البشري ذاته قد يذهب إلى حد أن تجعل منه وسيطها.
وهكذا فنحن نقف عند تساؤلات من قبيل: ما إذا كان الكتاب الإلكتروني يلغي الكتاب الورقي، إلا أننا لا نتساءل أبداً عن مفعول الوسائط الإعلامية علينا، على جهازنا النّفسي وعملياتنا الذهنية، على عاداتنا وعلائقنا، على مفهومنا عن الزمان والمكان، بل ربما على منطق تفكيرنا وأطر معارفنا.
أمر مؤكد أن استعمالنا للكمبيوتر أداةً للكتابة والقراءة أخذ يرسّخ فينا عادات جديدة ما كان لنا بها عهد، بل إنّنا نستطيع أن نذهب إلى القول إنه أدخل تغييراً جوهرياً على عملياتنا الذهنية إلى حدّ أنه لم يعد بإمكاننا أن نفهمها وفقاً للنموذج الذي سنّته النظريات التقليدية للمعرفة، النظريات التي تنظر إلى تلك العمليات على أنها أفعال "نفسيّة" في الأساس.
اللجوء إلى معالجة النصوص الإلكترونية، واستعمال محركات البحث عادات مستحدثة، إلا أنها ما فتئت تترسخ في السلوكات واللغة المتداولة إلى حدّ أن أفعالنا الذهنية أخذت تبدو أكثر فأكثر كأنّها عمليات لا يمكن أن تتم من غير سند الكمبيوتر.
إن الطابع التبادلي للشبكات الرقمية يعطي لمستخدمي التكنولوجيات الجديدة مكانة لم يكونوا ليتبؤوها من قبل، إذ لم يعد بإمكانهم أن يمكثوا سلبيين أمام المعلومة، ما داموا لا ينفكّون عن جردها، وبالتالي عن تصنيفها وترتيبها حسب الأهمية. على هذا النحو، فإن تكنولوجيات الاتصال أصبحت تتفاعل بشكل متبادل مع عملية بناء المعرفة وتُواكبها بدل أن تتقدمها.
كما أن ازدهار الأشكال التقنية الرقمية أدخل، إضافة إلى الأشكال التقليدية لحفظ المعارف وتسجيلها، حوامل أخرى للتخزين تتمتّع بقدرات تظهر لا نهائية. الأمر الذي تمخّض عنه تحوّل في قدراتنا على التذكّر.
لقد جعلت الثورة الرقمية من الذاكرة وظيفة "ماديّة" آلية وصُنعية. ما أبعدنا إذاً عن الذاكرة التقليدية، ذاكرة علم النفس. فعلى غرار اكتشاف الكتابة وتعميم الطباعة، يمكننا أن نعتبر أن اكتشاف الإنترنت تحوُّل انقلابي في تاريخ الموْضَعَة الخارجية لقدراتنا الذهنية. فالإنترنت، مثله مثل أية وثيقة مكتوبة، هو جهاز تذكّر خارجي، إنه جهاز تخزين، ومع ذلك فربما لا يصحّ أن نقول إنه يتذكّر؛ لأنه لا ينسى.
وعلى الرغم مما سبق، لا ينبغي أن نستنتج أن وظائفنا الذهنية من إدراك ومحاكمة وتذكّر أصبحت تتقوّى كوظائف ذهنية، بل إنها لا تتقوّى إلا كقدرات. إلى حدّ أن هناك من يذهب إلى القول إنه "كلما اتسعت ذكرياتنا، ضاقت ذاكرتنا".
وكل منا يشعر أن اعتماده المطوّل على الآلة، واستعانته الدائمة على التذكّر عن طريقها من شأنهما أن يضعفا من ذاكرته. ما جعل البعض يتخوف مما قد تحدثه الأشكال الجديدة للتقنية على مهاراتنا السيكولوجية، وعلى قدراتنا على العمل التي توجد من خلف كثير من المهن والحرف التي غدت عرضة للضياع بفعل ظهور هذه الأشكال الجديدة للتقنية.
ومهما كان الأمر فلا يمكننا هنا إلا التأكيد أن قدراتنا لم تعد قدرات سيكولوجية محضة، وأننا أصبحنا نتوفر على قدرات استيعاب وإدراك علائق وخزن معلومات مغايرة لما كانت عليه من قبل.
بل إن الأمر يتجاوز ذلك ليتعداه إلى العلائق التي تربطنا في ما بيننا. ولا يمكننا في هذا المضمار إلا أن نسجّل ما يحدثه الهاتف النقال من خلق وهم تواصل لا يكاد ينقطع، وتحويل الإنسان من "كائن ناطق" إلى كائن ثرثار "شديد النطق" يبحث عما يقوله لأن له هاتفاً يحمل رصيداً ستنتهي صلاحيته.
* مفكّر من المغرب