ماكرون ومتلازمة الموقع الخطأ

06 سبتمبر 2020
+ الخط -

يتحرّك الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في لبنان زائراً أماكن وشخصيات راسخة، فبعد لقائه فيروز، وجدناه في محمية أرز، ثُبِّت العلم الفرنسي على عجل فوق إحدى صخورها إلى جانب العلم اللبناني، مشمّرا عن ساعديه ليغرس أرزة، بينما في الجو تؤدي طائرات فرنسية استعراضاً لرسم العلم اللبناني في سماء الوطن! وقبلها في زيارته السابقة، بعيْد انفجار المرفأ، سار ماكرون راجلا في شوارع بيروت المدمرة وسط حشد مؤيدٍ له، أو مُطالبٍ بعودة فرنسا بصيغ انتدابية متعدّدة، حيث أراد ماكرون أن يُشعر اللبنانيين أنه قريب منهم، ويحسّ بأوجاعهم ولديه عشق خاص لهذا البلد.

التقى ماكرون السياسيين اللبنانيين، ولم يستثنِ حزب الله، وحث الجميع على توافق وزاري سريع أعطاه مهلة أسبوعين ليظهر إلى الحياة.. على دفعتين، رغب ماكرون في أن يعيد ما يستطيع إعادته من إرث الانتداب المنقضي منذ 75 عاما، ولم يبق منه اليوم غير رطانة واسعة باللغة الفرنسية، ورغبة فريق لبناني في الهجرة إلى فرنسا. أما النفوذ الذي كان لفرنسا فتبخَّر كله، واستُبدل بنفوذ إيراني وبعض نفوذ سعودي. ووسط هذا التجاذب الذي يُخفي تحت السطح احتمالية حرب مذهبية، أراد ماكرون تجريب "حظّه"، محاولا العودة إلى لبنان، وإنْ بالقدر الذي سيسمح به حزب الله.

لا يحظى الرئيس الفرنسي الشاب بالاحتفاء والتقدير خلال السير في شوارع باريس بالشكل الذي لقيه في بيروت، فشعبيته هناك، بحسب استطلاع حديث للرأي، تقارب 39%، وهي نسبة منخفضة، وإذا أضفنا إلى هذه النتيجة احتجاجات الشوارع خلال حركة السترات الصفراء التي خمدت فعاليتها "بفضل" انتشار فيروس كورونا، ولا تزال مسبّبات اندلاعها موجودة، وقد تعود في أية لحظة، نجد إشارات واضحة على عجز داخلي لماكرون، يترافق ذلك مع تخبّط سياسي خارجي بدت فيه سياسته غير واثقة من خطوتها التالية، فوجود ماكرون في بيروت خطوة في طريق سياسة فرنسية إزاء البحر المتوسط، وفرنسا قوة من المرتبة الأولى، ولديها شاطئ متوسّطي طويل، وهي ترغب الآن في ترجمة هذه المعادلة إلى حضور أكبر، لكنها، من جانب آخر، أظهرت ضعفا متوسطيا كبيرا في الملف السوري الذي تراجعت فيه، وسجلت غيابا، على الرغم من تاريخها الانتدابي في سورية الذي يماثل تاريخها في لبنان، تاركةً المجال لتداخل روسي وإيراني وأميركي. بدل ذلك، فضلت الانخراط في مواجهة مباشرة مع تركيا في شواطئ ليبيا، ما يُحدث اضطرابا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي تنتمي إليه الدولتان، ويرفع معدلات الخطورة في علاقات الحلف الداخلية. وقد يزيد الأمرَ سوءاً إصدار ماكرون توجيها إلى قواته البحرية، بتقديم عون عسكري لليونان، ما يرفع المخاطر العسكرية في شرق المتوسط.

لا تبدو خطوات ماكرون حاسمةً في أي من الميادين التي نشط فيها، فهو يلجأ إلى تحرّكاتٍ تبدو منفردة، وقد التزم الاتحاد الأوروبي جانب الصمت والترقب، من دون أن يبدي حماسا لما يقوم به ماكرون في لبنان. وأيضا قالت السفيرة الأميركية في بيروت إن مبادرة ماكرون تخصّ الفرنسيين.. وهذا يفقد السياسة الفرنسية هناك زخما هي بحاجةٍ إليه لتضمن نجاحا، وإنْ محدودا. يجد ماكرون نفسه وحيدا وسط وعودٍ كثيرة أطلقها هنا وهناك، وهو وإن كان يمثل قوة كبيرة ومؤثرة، ما زال بحاجة لحشد مزيد من دعمٍ لا يلوح في الأفق، فماكرون يصرّ في لبنان على اعتبار حزب الله قوة رئيسية، ويرغب في إعطائه قسما من المكاسب، وهذه سياسة ثبتت أنها فاشلة، بتكريس سلاح هذه المليشيا التي تعتبر من أهم أسباب الانقسام اللبناني الكبير .. قد ترى الحكومة النور، وربما خلال الفترة الممنوحة لها، لكنها لن تطير إلى أي مكان، فحكومة يجول فيها حزب الله ويمرح، ولديه فيها ممثل يمكن أن يعطّل أي قرار عملي، لن تتجاوز لحظة العنبر رقم 12 في ميناء بيروت.