ماري كلير بانكار.. مفاتيح لأبواب شفيفة

15 نوفمبر 2014
+ الخط -

في حال طُلب منا اختيار اسمٍ واحد من بين الأسماء الشعرية الكبرى في المشهد الشعري الفرنسي المعاصر، لانتقينا بلا تردد ماري كلير بانكار (1932). لماذا بانكار؟ لأنها شاعرة صفّت ذاتها من غرور الأنا وكبريائها، إلى حد يمكّنها، أكثر من غيرها، من الشعور، ليس فقط معنا، بل مع كل ما يحيط بها وبنا، حتى الارتجاف، حتى الإشراق.

نعم، معرفة بانكار شعورية، قبل أن تكون ذهنية أو فكرية، وهذا ما يمسّنا في نصوصها، أي ذلك التماثُل، ذلك الكمون الذي هو قدرة سحرية على الانزلاق تحت جلد الحي أو الجامد ومحاكاته، أو محاكاتنا من خلاله. هذا ما يظهر فوراً، وتلقائياً، لقارئ أعمالها الشعرية الغزيرة، وآخرها ديوان "كلمات عبور" (أو "كلمات سرّ") الذي صدر حديثاً عن دار Le Castor Astral.

ديوانٌ طموح لتناوله التاريخ بالمطلق وتاريخ الكلمات معاً، ولأن لغته في ورشة دائمة، تنبثق إيقاعاتها وفقاً لمبدأ تنظيم مفرداتها. هكذا، تبتكر بانكار أرضية شعرية فريدة تمتزج فيها، أو عليها، معرفة مدوخة ورؤية ثاقبة وذاكرة جماعية مرهفة، ضمن ملحمة لغوية وخطاب بلّوري يطالان جميع البشر.

كلمة السر مفتاحٌ يسمح بفتح ميدان سرّي وولوجه. وفي ميدان بانكار، أماكن ولاعبون مختلفون: مشاهد طبيعية، بشر، حشرات صغيرة، آلهة بقصصها وأفعالها، وأشياء أخرى كثيرة تربطها فكرة أن أصغر كائن حي يحمل في كينونته الكون بأسره، وأن الشعر وحده، بفضل "كلماته السرّية"، قادر على إشعارنا بذلك: "كبرنا ببطءٍ في الهشاشة/ مع هذا المشهد الزهيد، الذي يتنفّض/ حتى يولد/ العالم بأسره حوله".

ثمة كلمات سرّ كثيرة في هذا الديوان، تستخدمها الشاعرة كعملة كونية لبلوغ الشعر والزمن والحياة. وفي هذا السياق، تتراوح كتابتها بين شعر حر وقصيدة نثر، بسهولة تجعلنا لا نشعر بهذا التغيير الشكلي، حين يحصل، لأن السرد الذي تتّبعه لا يتجسد في النثر أفضل مما هو في القصيدة المقطّعة إلى أبيات.

وفي الحالتين، تمنحنا بانكار شعراً متزامناً أو متعاقباً، تتراكم فيه جميع المراحل الزمنية وتتداخل. فمنذ النص الأول، نراها تستحضر القرون الوسطى لتسائل تماثيل العفاريت التي تجسم على سطوح الكاتدرائيات، وترمز إلى وحشية وغموض اللغات؛ لتتراجع بعد ذلك إلى مرحلة ما قبل التاريخ، وبالتالي إلى ما قبل الإنسان واللغة، وتحديداً إلى مرحلة تكوين العالم، قبل أن تقفز إلى الحاضر المؤلم بأحداثه وكوارثه.

فيضٌ زمني، إذاً، بمشاهد مؤسِّسة، تقطنها أشجارٌ وحيوانات صغيرة لا نعرف أسماءها، ومع ذلك، تهيكل البداهة. تأمّلٌ في الإنسان بأدوات مجهرية لكن واقعية، بوصفه كائناً مخلّصاً أو مدمّراً للكون. وبالتالي، محاولات لمعرفة الذات وفهم طبيعتها وتقبّلها. كل ذلك يتمثّل في كتابة تحفّز أصغر ذرة وأقل خلية بورعٍ وحماسة، وتمغنط الأشياء، مستعينةً بأضواء الفجر، وفوارق اللامرئي.

باختصار، ديوانها عبارة عن دليل سفرٍ لعبور أبواب شفيفة وحدودٍ غير ملموسة، كتبته ماري كلير بانكار خلال مرحلة صعبة من المرض. من هنا يقينها فيه بأن "الخفي يقيم على زجاج النوافذ، على الستائر، على أغلفة الكتب"، وبأن "الحياة ليست أبداً فقيرة".


مختارات من "كلمات عبور"

 

هذا الارتجاف

يمتد بعيداً

على سطح البحر

 

مفاعيل الضوء؟

سربٌ هائل من الطيور الهاربة؟

 

ضد الشك

نضع

قربنا

إناء الزهور البرتقالية

 

الهنا الآن

يستوقف النظر.

 

*

 

كما يسمع إنسانٌ في غيبوبةٍ كلمات

بعيدة، تربطها

فواصل: ضربات، موسيقى غير متوقّعة،

 

هكذا

أتأمل عبر الستائر

غيوماً تنسل على أرضٍ ربيعية

 

فجأةً تظهر لي رقة المشهد الكبيرة

موشّى برياحٍ خفيفة ومياه سواقٍ

 

كان يمكن أن تطير عبره

الحمامة التي أضعفتها الإقامة في سفينة نوح

لتستعيد

بحبّ

متانة تِلّورية نابعة من سماءٍ متحوّلة.

 

نوعٌ من السعادة

يعبرني.

 

*

 

هذا المساء القمر مصدّعٌ

 

سنغلق جميع فتحات المنزل.

سنتلو تعويذات بصوتٍ منخفض

 

عند الفجر سنذهب إلى حدود الحقل

لهمس الكلمات التي نكون قد سمعناها كجواب

 

متخلّصين، ربما،

من وزرٍ ثقيل.

 

بعيداً عن المياه السوداء

سنلتقط حشرةً صغيرة

سندخل بيتها السرّي

ونخاطب الأرض بحميميةٍ

معها.

 

*

 

أوراق الشجر

تكشف عن حوافَّ صفراء ـ صهباء

 

مع أننا لسنا في الخريف

 

لعله سأمٌ مفاجئ للفضاء

حيث ينام الغياب

الملموس فجأةً هنا، تحت أصابعنا.

 

*

 

أمامي

تمتد، كبحرٍ، أرضٌ محروثة

سوادٌ بعد سوادٍ

كأمواجٍ صغيرة.

 

ما أحبّه هو تلك الشراشف المعتمة

التي تتراوح في المدى.

 

لن أرميها بحجارةٍ

لتحويلها إلى بشر.

 

لا. سأداعب قممها

بأصابعي.

 

وفي النهاية، سأتمدد في شُسوع وعمق رائحتها

وبلذّةٍ

سأتذكّر عوليس في خاتمة أسفاره.

 

*

 

سوداء إلى حد

امتلاكها انعكاساتٍ حمراء

الأرض.

 

إنه المساء

 

غروبٌ

تأمّلَ، من دون أن تبهره،

نظرة

حيوانٍ

 

لم يرفض في ما بعد

قبل حلول الليل

الإشعاعات الحمراء للتلال.

 

يشتمّ لونه العميق والخاص

 

يملك إمبرطورية

أضاعها البشر

الذين يغلقون مصاريعهم

على الألق المجهول للمعتِم.

 

(ترجمة أ.ج.)

المساهمون