31 مارس 2019
ماذا قدمت السلفية للجزائر؟
في ظل قلة المراجع والدراسات التفصيلية والتوثيقية حول تاريخ الحركات ذات التوجه الإسلامي في الجزائر، يصعب على الباحث الإلمام بالجوانب "السوسيوتاريخية" والثقافية، التي مهدت لظهور هذا التيار الديني وظروف تأسيسه.
معظم الدراسات المتوفرة على قلّتها، تناولت النواحي الخطابية، التي مأسست الحركة الإسلامية ومناهجها العقائدية، فضلا عن المادة العلمية المتوفرة على مستوى المراجع التراثية.
لكن هذه الدراسات اشتغلت على حفر وتفكيك البنية الفكرية والعقائدية للحركات ذات الخلفية الإسلامية، دون أن تحاول إدراك العمق البنيوي لها وسيرورة تحولاتها الاجتماعية والسياسية، حتى المعيشية منها، متجاهلة الأبعاد التاريخية في تأصيل مشروعيتها وطبيعة علاقتها بالسلطة السياسية، من حيث التموقع والاستغلال.
هل السلفية حركة جزائرية؟
معظم الدراسات المتوفرة على قلّتها، تناولت النواحي الخطابية، التي مأسست الحركة الإسلامية ومناهجها العقائدية، فضلا عن المادة العلمية المتوفرة على مستوى المراجع التراثية.
لكن هذه الدراسات اشتغلت على حفر وتفكيك البنية الفكرية والعقائدية للحركات ذات الخلفية الإسلامية، دون أن تحاول إدراك العمق البنيوي لها وسيرورة تحولاتها الاجتماعية والسياسية، حتى المعيشية منها، متجاهلة الأبعاد التاريخية في تأصيل مشروعيتها وطبيعة علاقتها بالسلطة السياسية، من حيث التموقع والاستغلال.
هل السلفية حركة جزائرية؟
تذهب بعض القراءات التحليلية والمعالجات الإعلامية إلى أن الحركة السلفية تعد امتدادا لجمعية العلماء المسلمين، بحجة أن هناك تقاربا بينهما على مستوى المفاهيم، مثل ضرورة محاربة ما يعتبرونه "الشرك بالله" والجهر بالعداء للطرق الصوفية والطرقية والعمل على تحريم الطقوس الدينية التقليدية، ويجتمعان أيضا في ما يصفونه بـ"المذهبية السنية".
تستند هذه القراءات إلى حجج، منها أن السلفية العلمية تنهل من المراجع الدينية لجمعية العلماء المسلمين، مثل كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير للشيخ ابن باديس، وآثار الشيخ البشير الإبراهيمي ومجلة الشهاب، في محاولة لتأصيل المرجعية المحلية في الفكر السلفي الجزائري.
كما يعد كتاب الشيخ مبارك الميلي، أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين، المعنون بـ"الشرك ومظاهره"، من المراجع المعتمدة في الخطاب التوحيدي للعناصر السلفية المدخلية، متمسكين بإعادة صياغة أدبيات الجمعية على غرار مسألة الاغتراب والدفاع عن اللغة العربية.
وفي نظر البعض أن صراع السلفية مع الصوفية عزّز التقارب بين السلفية وجمعية العلماء، خصوصا إذا ما استقرأنا التاريخ، يعود للأذهان تطابق كتابات زعماء الجمعية مع نظرة السلفية، حول قضايا عديدة، كمسألة السنة والبدعة. كما يسعى المذهب السلفي لإيجاد قواسم مشتركة بينه وبين الجمعية في مسائل التاريخ والفكر والتوحيد والعقيدة، حتى تشرعن "انتماءها الجزائري".
على النقيض، قالت قراءات أخرى إن السلفية ظهرت مع حالة التعبئة التي عرفتها مرحلة الثمانينيات خلال ما عرف بـ"الجهاد الأفغاني"، عقب انضمام العديد من الشبان إلى معسكرات التدريب في باكستان وأفغانستان، بتمويل وتوجيه من المملكة العربية السعودية.
في هذه الفترة، التحق العديد من الطلبة الجزائريين بالجامعات الإسلامية بالسعودية، الأمر الذي أسس للروابط والجسور الفكرية والمنهجية بين الفكر السلفي والطلبة.
ومن بين الفوارق المرصودة، أن معظم أطر جمعية العلماء المسلمين يتحدرون من عائلات برجوازية، عكس التيار السلفي ذو الامتداد الشعبي.
علاوة على ذلك، لم يحمل خطاب جمعية العلماء في مضمونه أفكارا صدامية لا مع الإدارة الاستعمارية ولا مع الفرق الطرقية، مقارنة بالتيار السلفي النجدوي القائم على ثلاثية "الحاكمية لله" و"الجاهلية الجديدة" و"الولاء والبراء".
في نظري أن المشروعية التي يحظى بها تيار السلفية استمدها أثناء استخدامه في المقاربة الأمنية لمواجهة الحركات الجهادية والتكفيرية خلال سنوات التسعينيات.
حينها، استعانت السلطة بالعديد من الشخصيات السلفية العلمية بغية التصدي للجماعة الإسلامية المسلحة إيديولوجياً وعقائدياً، من هؤلاء، عبد المالك رمضاني والعيد شريفي وعبد الغاني عيسات وعلي فركوس ومراد العقيدة.
خلال تلك الحقبة، حمل أحمد مراني حقيبة وزارة الشؤون الدينية (1994 - 1997)، الذي كانت معروفة عنه ميولاته الدينية المتشددة المعارضة للسلطة، وكانت خطاباته تتسم بالتشدد والحماسة الدينية.
وقتها، عمل مراني على توظيف عدد كبير من الأئمة من أتباع السلفية العلمية قصد مواجهة حملة الدعاية الدينية للجماعات الإسلامية المسلحة ومقاومة حملات تكفير النظام وأعوانه والعمل على التشكيك في مشروعية القتال والجهاد في الجزائر وفق بدائل دينية.
من هذه البدائل، عدم جواز العمل السياسي وعدم جواز الخروج على الحاكم، ناهيك عن وجوب الطاعة لأولياء الأمور وعدم جواز التحزب، مستغيثين بفتاوى كبار مشايخ السعودية أمثال "العثيمين" و"ابن باز" و"الألباني".
تضاعفت مجهودات هؤلاء الدعاة، خلال مرحلة المصالحة الوطنية، وعمدت السلطات الأمنية والسياسية إلى توظيف هؤلاء في نقاشات مباشرة مع الجماعات المسلحة حول مشروعية الجهاد في الجزائر.
ولا أحد ينكر أن مشايخ السلفية تمكنوا من إقناع الكثير من العناصر المسلحة بعدم مشروعية القتال وكانوا سببا في نزول الآلاف من الجبال واستفادتهم من ميثاق السلم والمصالحة.
لقد أنتجت الأزمة الأمنية بعدها تغييرات على البروتوتيب السلفي، فلم يعد ذلك الشخص الفقير من الأحياء الشعبية البطال المسكين، بل أغلب عناصرها اليوم يمتهنون التجارة على مستوى أسواق الجملة للمواد الغذائية والهواتف النقالة ووكالات السياحة، إضافة إلى الأنشطة الموازية في عالم السيارات والرقية الشرعية والطب التقليدي.
في تقديري أن هذا التحول ساهم في الانتقال من الفكر من مرحلة الاعتزال إلى محاولة الاندماج والاستفادة من الريع والمال العام.
إن التيار السلفي يعتبر من أهم ظواهر العصر الحديث الاجتماعية والسياسية. وبات جزء من النسيج الاجتماعي يتمركز على مستوى الأحياء الشعبية والمدن الكبرى، نتج عنه التدين الحضري (الحواضر) الذي يناقض الموروث الديني التقليدي الريفي والصحراوي القائم على العصبية والقبيلة.
بحسب تصوري، فإن التعامل مع التيار السلفي ينبغي أن يكون وفق مقاربة إنسانية تراعى فيها ظروف نشأته، ويتعين أن يتحول مشروع مكافحة الإرهاب من مشروع العسكرة إلى مشروع الأنسنة عبر الاحتواء السياسي.
ذلك أن الإقصاء باسم الدين أو الادعاء بالصفوة الدينية ما هو إلا شكل من أشكال الإقصاء المتعددة التي تتخذ من الشرعية التاريخية الثورية أو العلمنة الحداثية منبرا لها تصنف الغير تحت مسميات "الحركي" و"الخونة" و"الظلامية" و"الرجعية".
ومن يريد خيار المصادمة أو المقاربة الأمنية في التعاطي مع الحركة السلفية، سيستنزف طاقاته وقدراته دون تحقيق أي نتيجة مرجوة.
يتعين علينا جميعا العمل على إيجاد مجتمع متنوع قائم على فرض قانون التسامح وقبول الغير والعيش المشترك، لأن وجود التطرف اليميني والشعبوي في الدول الغربية لا يشكل خطرا على الدولة التي يحميها عنصر القوة ودولة القانون.
وكخلاصة، فإن التيار السلفي، بالرغم مما يحمله من أفكار تمس بالنسيج الاجتماعي ووحدته، غير أنه لن يستطيع تأسيس كيان مستقل، لأنه قائم على فكرة متخيلة وليس على أساس عرقي أو إثني أو قبلي، ولهذا فإن السجال الحاصل حول الدين ومرجعيته لا يعد قيمة إيمانية أو إرثا حضاريا، بل هو طموح من تكون له السلطة الروحية الفعلية.
تستند هذه القراءات إلى حجج، منها أن السلفية العلمية تنهل من المراجع الدينية لجمعية العلماء المسلمين، مثل كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير للشيخ ابن باديس، وآثار الشيخ البشير الإبراهيمي ومجلة الشهاب، في محاولة لتأصيل المرجعية المحلية في الفكر السلفي الجزائري.
كما يعد كتاب الشيخ مبارك الميلي، أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين، المعنون بـ"الشرك ومظاهره"، من المراجع المعتمدة في الخطاب التوحيدي للعناصر السلفية المدخلية، متمسكين بإعادة صياغة أدبيات الجمعية على غرار مسألة الاغتراب والدفاع عن اللغة العربية.
وفي نظر البعض أن صراع السلفية مع الصوفية عزّز التقارب بين السلفية وجمعية العلماء، خصوصا إذا ما استقرأنا التاريخ، يعود للأذهان تطابق كتابات زعماء الجمعية مع نظرة السلفية، حول قضايا عديدة، كمسألة السنة والبدعة. كما يسعى المذهب السلفي لإيجاد قواسم مشتركة بينه وبين الجمعية في مسائل التاريخ والفكر والتوحيد والعقيدة، حتى تشرعن "انتماءها الجزائري".
على النقيض، قالت قراءات أخرى إن السلفية ظهرت مع حالة التعبئة التي عرفتها مرحلة الثمانينيات خلال ما عرف بـ"الجهاد الأفغاني"، عقب انضمام العديد من الشبان إلى معسكرات التدريب في باكستان وأفغانستان، بتمويل وتوجيه من المملكة العربية السعودية.
في هذه الفترة، التحق العديد من الطلبة الجزائريين بالجامعات الإسلامية بالسعودية، الأمر الذي أسس للروابط والجسور الفكرية والمنهجية بين الفكر السلفي والطلبة.
ومن بين الفوارق المرصودة، أن معظم أطر جمعية العلماء المسلمين يتحدرون من عائلات برجوازية، عكس التيار السلفي ذو الامتداد الشعبي.
علاوة على ذلك، لم يحمل خطاب جمعية العلماء في مضمونه أفكارا صدامية لا مع الإدارة الاستعمارية ولا مع الفرق الطرقية، مقارنة بالتيار السلفي النجدوي القائم على ثلاثية "الحاكمية لله" و"الجاهلية الجديدة" و"الولاء والبراء".
في نظري أن المشروعية التي يحظى بها تيار السلفية استمدها أثناء استخدامه في المقاربة الأمنية لمواجهة الحركات الجهادية والتكفيرية خلال سنوات التسعينيات.
حينها، استعانت السلطة بالعديد من الشخصيات السلفية العلمية بغية التصدي للجماعة الإسلامية المسلحة إيديولوجياً وعقائدياً، من هؤلاء، عبد المالك رمضاني والعيد شريفي وعبد الغاني عيسات وعلي فركوس ومراد العقيدة.
خلال تلك الحقبة، حمل أحمد مراني حقيبة وزارة الشؤون الدينية (1994 - 1997)، الذي كانت معروفة عنه ميولاته الدينية المتشددة المعارضة للسلطة، وكانت خطاباته تتسم بالتشدد والحماسة الدينية.
وقتها، عمل مراني على توظيف عدد كبير من الأئمة من أتباع السلفية العلمية قصد مواجهة حملة الدعاية الدينية للجماعات الإسلامية المسلحة ومقاومة حملات تكفير النظام وأعوانه والعمل على التشكيك في مشروعية القتال والجهاد في الجزائر وفق بدائل دينية.
من هذه البدائل، عدم جواز العمل السياسي وعدم جواز الخروج على الحاكم، ناهيك عن وجوب الطاعة لأولياء الأمور وعدم جواز التحزب، مستغيثين بفتاوى كبار مشايخ السعودية أمثال "العثيمين" و"ابن باز" و"الألباني".
تضاعفت مجهودات هؤلاء الدعاة، خلال مرحلة المصالحة الوطنية، وعمدت السلطات الأمنية والسياسية إلى توظيف هؤلاء في نقاشات مباشرة مع الجماعات المسلحة حول مشروعية الجهاد في الجزائر.
ولا أحد ينكر أن مشايخ السلفية تمكنوا من إقناع الكثير من العناصر المسلحة بعدم مشروعية القتال وكانوا سببا في نزول الآلاف من الجبال واستفادتهم من ميثاق السلم والمصالحة.
لقد أنتجت الأزمة الأمنية بعدها تغييرات على البروتوتيب السلفي، فلم يعد ذلك الشخص الفقير من الأحياء الشعبية البطال المسكين، بل أغلب عناصرها اليوم يمتهنون التجارة على مستوى أسواق الجملة للمواد الغذائية والهواتف النقالة ووكالات السياحة، إضافة إلى الأنشطة الموازية في عالم السيارات والرقية الشرعية والطب التقليدي.
في تقديري أن هذا التحول ساهم في الانتقال من الفكر من مرحلة الاعتزال إلى محاولة الاندماج والاستفادة من الريع والمال العام.
إن التيار السلفي يعتبر من أهم ظواهر العصر الحديث الاجتماعية والسياسية. وبات جزء من النسيج الاجتماعي يتمركز على مستوى الأحياء الشعبية والمدن الكبرى، نتج عنه التدين الحضري (الحواضر) الذي يناقض الموروث الديني التقليدي الريفي والصحراوي القائم على العصبية والقبيلة.
بحسب تصوري، فإن التعامل مع التيار السلفي ينبغي أن يكون وفق مقاربة إنسانية تراعى فيها ظروف نشأته، ويتعين أن يتحول مشروع مكافحة الإرهاب من مشروع العسكرة إلى مشروع الأنسنة عبر الاحتواء السياسي.
ذلك أن الإقصاء باسم الدين أو الادعاء بالصفوة الدينية ما هو إلا شكل من أشكال الإقصاء المتعددة التي تتخذ من الشرعية التاريخية الثورية أو العلمنة الحداثية منبرا لها تصنف الغير تحت مسميات "الحركي" و"الخونة" و"الظلامية" و"الرجعية".
ومن يريد خيار المصادمة أو المقاربة الأمنية في التعاطي مع الحركة السلفية، سيستنزف طاقاته وقدراته دون تحقيق أي نتيجة مرجوة.
يتعين علينا جميعا العمل على إيجاد مجتمع متنوع قائم على فرض قانون التسامح وقبول الغير والعيش المشترك، لأن وجود التطرف اليميني والشعبوي في الدول الغربية لا يشكل خطرا على الدولة التي يحميها عنصر القوة ودولة القانون.
وكخلاصة، فإن التيار السلفي، بالرغم مما يحمله من أفكار تمس بالنسيج الاجتماعي ووحدته، غير أنه لن يستطيع تأسيس كيان مستقل، لأنه قائم على فكرة متخيلة وليس على أساس عرقي أو إثني أو قبلي، ولهذا فإن السجال الحاصل حول الدين ومرجعيته لا يعد قيمة إيمانية أو إرثا حضاريا، بل هو طموح من تكون له السلطة الروحية الفعلية.