التدين صناعة مجتمعية قابلة للنقد

08 أكتوبر 2018
+ الخط -
تداولت بعض المواقع الإلكترونية والمساحات على السوشال ميديا مقطعا من حوار أجراه الكاتب والروائي أمين زاوي، مع موقع "كل شيء عن الجزائر" الناطق باللغة الفرنسية، وأدار النقاش الصحافي فيصل مطاوي. جاء في المقطع على لسان أمين زاوي أن الدين يقف حاجزا أو عقبة أمام التقدم والتطور.

اكتفت تلك المواقع بعرض ذلك المشهد من الحوار وقص وقطع باقي المداخلة، وتمت قراءة هذا التدخل على أن أمين زاوي يهاجم الدين الإسلامي الحنيف، لكن لو تتبعنا باقي الحوار لاكتشفنا أن صاحب رواية السماء الثامنة يقصد بكلمة الدين أشكال التدين الإنساني والسلوكات الفردية المرتبطة بالمفاهيم الدينية الناتجة عن القراءات الخطأ وغير المستقيمة للدين، ولم يكن يقصد بكلمة الدين قيمة روحية - سماوية. بل أبعد من ذلك، أثنى على الإسلام العقلاني والصوفي يمثله في ذلك تيار ابن عربي، ابن رشد، الفارابي، المعري، ابن سينا.

وبعيدا عن الجدل عن دور الإعلام في أداء الوظيفة الدعوية أو الدينية، أكيد أن هناك ضبابية في أعين الكثير عن مفهوم الدين كقيمة روحية ورمزية مقدسة، وبين الدين كقيمة اجتماعية أو إرث ثقافي تتداخل فيه كثير من العوامل في صياغته وصناعته. وبات اليوم السلوك الديني أقرب إلى ظاهرة اجتماعية تصنعها ميكانيزمات عديدة متداخلة، إذا، إن سلمنا بهذا فتلك السلوكات والذهنيات قابلة للنقاش والنقد الذاتي والحكم القيمي والأخلاقي.


تستحضرني آية قرآنية وحديث نبوي يرفع الستار والإبهام عن الفجوة الموجودة بين الدين كمعطى رمزي - سماوي، والتدين كسلوك فردي نتيجة إفرازات البيئة الاجتماعية والحركية التاريخية، أو بفعل الظروف السياسية. الاستدلال النصي في هذا المقام أرى أنه الأنسب في تقريب المعنى وتوضيح الفرق وتبسيط المضمون.

ورد في الآية الكريمة قوله تعالى "قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ". بعيدا عن القراءة النصية في تحديد مفهوم الأعراب ومنزلة الإيمان والإسلام، هذه الآية تحدد نموذجين أو قيمتين اجتماعيتين، الإسلام المدني والإسلام البدوي.

لم ينف القرآن صفة الإيمان عن الأعراب، بل استهجن وعارض سلوكا إنسانيا يعكس الانتماء إلى المنظومة البدوية التي تدعي كمال الإيمان، فيما لم يرتق مستوى الأداء السلوكي بعد إلى الإسلام الحضري أو المدني، فالآية تتعدى هنا الإيمان بمفهومه العقائدي وهو إقرار بوحدانية الله وتصديق بالنبوة أو بالمفهوم العشائري، كالصلاة والصيام والزكاة والحج. بل الأمر يرسم صورة عن الصراع والتصادم والتعارض الحاصل بين قيمتين اجتماعيتين هما الإسلام المدني وإسلام البداوة بشكله الطبيعي والعفوي.

إن الانتقال المصطلحاتي من كلمة يثرب إلى مصطلح المدينة، أنتج منظومة سلوكية محددة ومعينة كان على الأعراب التزامها، ورغم المواصفات كالشجاعة والكرم والفروسية إلا أن باقي الصفات تتصادم مع البنية الاجتماعية - السياسية الجديدة كالطاعة والتنظيم وأداء الحقوق والواجبات وفق عقد اجتماعي معين، مقابل الزعامة والعصبية والحروب وهي صفات البداوة التي أراد الإسلام الحضري ذوبانها داخل النمط السياسي والاجتماعي والتنظيمي الجديد. ومختصر القول أن الآية الكريمة حملت رؤية نقدية لسلوك اجتماعي معين ادعى كمال الإيمان والإسلام.

الشاهد الثاني في الحديث ما رواه أهل رواة عن نبي الله محمد في وصف طائفة الخوارج: يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ. نلاحظ جيدا الإشادة بجملة من الخصال التعبدية كالصلاة والصيام والقيام لدى جماعة الخوارج، بل أبلغ من ذلك وجود حالة التشدد في أداء الشعائر الإسلامية التعبدية مرتبطة بالجوارح لدى طائفة الخوارج، حتى بات الواحد يحسد درجات تعبدهم. لكن باقي الحديث النبوي يحمل تصورا سلبيا عن الخوارج، ورأى الرسول الكريم أن هذه الطائفة أو الجماعة مارقة من الدين، بتعبير آخر لا ترتقي إلى المفهوم الصحيح للدين فكريا ولا سلوكيا أو أن سلوكاتهم المتشددة قد لا تعكس القيمة النموذجية للدين.

إن الحديث النبوي أعطى وصفا ظاهريا عن التطرف والتشدد والمغالاة، طبعا دون الإشارة إلى عوامل النشأة والتكوين التي في الغالب تستمد مرجعيتها من النص القرآني والسني، فالخوارج هم حركية سياسية ثورية بالمفهوم العصري شكلت الحاكمية محور احتجاجاتها وعصيانها المسلح. مختصر البيان أن الخوارج هم حركة اجتماعية أنتجت مجموعة من المفاهيم والقيم، في سياق الصراع السلطوي بين الأطراف المتنازعة على الخلافة. كان النص القرآني "إن الحكم إلا لله" شعار ومحور الحركة الاحتجاجية.

هناك شواهد أخرى يطول سردها من التاريخ الإسلامي، تعكس جيدا أن النشأة والبنية العقائدية والدينية هي نتاج حركية سياسية وتدافع اجتماعي بل عرقي أيضا.

في الخاتمة، إن الدين بات اليوم أقرب إلى إرث ثقافي شكلته منظومة فقهية وعقائدية، تعاقبت على صناعته أجيال من علماء وفقهاء ومفكرين الكل حسب الظروف التاريخية والسياسية والجغرافية، بل الكثير من الأحكام والمعتقدات كانت نتيجة التحالف بين السلطة السياسية والسلطة الدينية وكانت هذه الأخيرة في خدمة الأنظمة السياسية تتماشى مع أهواء الحكام والملوك، وتمت صياغة الكثير من الأفكار والمفاهيم على أنها من الدين الحنيف. وأضحت الكثير من المسلمات قيما اجتماعية ومجتمعية لها صبغة دينية مقدسة يفسق ويكفر من يجرؤ على إعادة النظر فيها.

إن الحركية الإنسانية عبر التاريخ أخضعت الموروث الديني لما له دور في التجييش والتأييد والمناصرة، وتم تأويله وفق ظروف معينة وحاجات محددة تصب في صالح تلك الحركية، فمحاولة الانتقاد أو النقاش إنما تتناول صناعة سلوك الإنسان لا دين الإسلام.