الأمير خالد... المناضل السياسي وميلاد الوطنية

31 مارس 2019
+ الخط -
لم تكن الصدمة موجعة عندما تلقيت الإجابة من المكتبي.. كنت سألته عن كتب مرجعية عن حياة الأمير خالد، أجابني بأنه ليس في المكتبة كتب عن السعودية وأمرائها!..

واقع يكشف عن جهل الكثير منا بشخصيات تاريخية جزائرية لعبت أدوارا هامة في التاريخ القديم والحديث، ونادرا ما نجد دراسات تتناول تلك الشخصيات وأبعادها التاريخية والسياسية، أو أبحاثا تعمل على تأسيس ذاكرة مجتمعية جماعية، ما عدا بعض المقالات الإعلامية أو البحوث الموجزة.

شهد العالم بعد فترة الحرب العالمية الأولى تحولات على مستوى جغرافيا الحدود، وعرفت صعود التيارات الوطنية والتحريرية والحركات النقابية. الجزائر جزء من ذلك المحيط العالمي، تحولات كثيرة عرفتها على مستوى تركيبة السكان.

خلال الذكرى المئوية للتواجد الفرنسي، شكل صعود "الكولون" كمكون سياسي واستيطاني واجتماعي انعكس على سيطرته على كامل المسؤوليات الإدارية والسياسية والاقتصادية والمطالبة بالاستقلال المالي والنيابي عن "الميترو بول الفرنسي" بعد مرحلة قبضة باريس في إدارة مستعمرة الجزائر.

بينما عرف المجتمع المحلي الجزائري تفككا كليا في تركيبته المجتمعية القائمة على العشيرة والقبيلة والانتماء الديني عبر المؤسسات الدينية كالزوايا والمرابط، شكلت مصادرة الأراضي الفلاحية والزراعية وتفريغ وتهجير القرى والمداشر تشتيتا لروابط الأسر وتفريقا للعائلات الجزائرية. وخلال الفترة من 1900 إلى 1930، بدأت ظاهرة هجرة اليد العاملة الجزائرية إلى فرنسا، رغم معارضة "الكولون"، معربة عن تخوّفها من انعكاسات الهجرة على الاستقرار المالي والاقتصادي ونضج الوعي الحقوقي والتعليمي للأهالي.


بعد انكسار مسار حركات المقاومة والانتفاضات السكانية، كان الوضع الذهني والنفسي للأهالي منهارا وصعبا، سادت في الجزائر مشاهد الفقر والبؤس، المتسولون في كامل المعمورة، الأطفال حفاة عراة متشردون من دون مأوى، وأمهات تائهات يتصارعن مع قطيع من الكلاب على قمامة من الزبالة أمام البنايات الأوروبية، في مقابل صعود حلفاء السلطة الاستعمارية من بعض العائلات البرجوازية الإقطاعية والدينية كوسطاء بين الأهالي والإدارة الاستعمارية، وعوض تلبية مطالب السكان والتخفيف من المعاناة، كان أولئك الوسطاء يبحثون عن المزيد من الامتيازات والسلطة وقهر المواطنين.

كانت حركة الشباب الجزائري أول تنظيم شبه سياسي يتبنّى المطالب الحقوقية ويعمل على تحسين ظروف المعيشة. لقد كان انضمام الأمير خالد إلى هذا التنظيم إضافة نوعية، على مستوى الخطاب والنضال والرؤية المستقبلية. يصف مصالي الحاج الأمير خالد، خلال محاضرة ألقاها في مدينة تلمسان: "شخصية معتبرة وعظيمة وهيبة زعيم عربي مهيب، كان يوحي بالثقة في المستقبل لمجرد أن تراه أو تستمع إليه".

اتسمت شخصية الأمير بمواصفات متعددة بين التكوين الديني بحكم انتمائه إلى الطريقة القادرية والرصيد العائلي الممتد إلى جده الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الحديثة. كان مشبعا بروح المسؤولية والتماسك والاتزان ومزدوج الثقافة واللغة، نشأ وترعرع في دمشق 1875، خريج المدرسة الحربية الفرنسية سان سير وأمضى 23 عاما في الخدمة العسكرية وشارك في حرب المغرب الأقصى أعوام 1906 و1907/08، كما خاض الحرب العالمية الأولى ضد القوات الألمانية ونال رتبة النقيب وألقابا أخرى. رفض التجنيس مقابل الترقية العسكرية، عرف عنه خلال التجنيد العسكري المطالبة بالتساوي في الحقوق والوجبات مع الجنود الفرنسيين وتحريض جنود المسلمين على المطالبة بحقوقهم.

امتلك الأمير خالد روحا جديدة في التعاطي مع الاستعمار، عبر سلك درب الرجل السياسي العصري، يأخذ بشروط الموضوعية في دفع المسألة الوطنية نحو المخرج، في هذا السياق تقدم صهر الأمير عبد القادر برسالة إلى الرئيس الأميركي ولسون، وعرض عليه مسألة الأهلية ككيان يعاني الاحتلال والاستعمار، مستغلا في ذلك النقاط الأربع عشرة حول السلام العالمي من طرف عصبة الأمم: "إننا نطالب بإرسال مندوبين عنا نقوم باختيارهم من أجل تقرير مصيرنا في المستقبل.. يجب أن تأخذ كأرضية من أجل انعتاق الشعوب الصغيرة وتحررها من دون تمييز في العرق ولا في الدين".

استغل العمل السياسي السلمي عبر توليه مسؤوليات سياسية كمنصة لتقديم ودفاع عن المطالب والمقترحات منها:
- إلغاء النظام الاستثنائي والعمل بالقانون العام.
- إلغاء النظام "الانديجان".
- التمثيل النيابي للأهالي المسلمين الجزائريين.
- اشتراك الأهالي في إدارة الشأن العام عبر التعاون وليس صيغة الاندماج التي لا توفر إمكانيات تحقيقها.
- حقوق المواطنة مع الاحتفاظ بخصائص الشخصية والهوية الإسلامية والمقومات الدينية.
- ترقية حقوق العمالة الجزائرية.
- حقوق التجنيد مع باقي الجنود الفرنسيين.

لقد شكل خطاب الأمير خالد قفزة نوعية في استخدامه عناصر جديدة في المفردات والمصطلحات المطلبية والحقوقية، ترجمت صعود وعي جديد لدى الجماهير المشتتة وبدون مرجعية أو قيادة تمثيلية، فكانت جريدة "الإقدام" منبرا إعلاميا لتناول مختلف الأحداث والمواضيع وطرح الانشغالات. صارت لسان حال كل المقهورين والمستضعفين من الطغيان الاستعماري.

كان النجم الذي سطع نوره في وسط الظلمات، والتفّت حوله كامل الفئات والأعمار. كانت خطاباته بحكم النشأة والتكوين بالعربية الفصحى أو باللغة الفرنسية، لكن كلماته تجد طريقها إلى قلوب مستمعيه، لم يكن تكتلا دينيا ولا فئويا برجوازيا، بل تعلقت به الفئات المحرومة والمستضعفة والفقيرة. لم يشتغل على الحقل الديني كرجل إصلاحي، بل كمثقف سياسي يستغل الأساليب النضالية والسياسية ويستخدم آلياتها في الدفاع عن المسألة الوطنية.

شكل الأمير خالد تهديدا للقوى الكولونيالية وحلفائها من الأهالي، وشنت جريدة "إيكو إلجي" حملة تشويه وتلفيق، واصفة إياه بـ"الوطني الشعبوي الاستقلالي وعدو الدولة الفرنسية". من جهتهم، كان أعوان الإدارة الكولونيالية ينعتونه بـ"المتطرف والمتعصب وغير المتسامح".

تعرّض الأمير إلى ضغوط إدارية ومالية، وتم تجريده من مناصبه وجميع حقوقه السياسية والمواطناتية، وتقرر نفيه كأسلافه إلى مدينة الإسكندرية.

كان قطار التحرر بدأ يأخذ سكّته الصحيحة رغم بطء حركته. انتفاضة عبد الكريم الخطابي، وثورة الريف سنة 1926، وحركة جيش كمال أتاتورك ضد القوات الأوروبية عام 1925، وسلك القطار التحرري من بعده مصالي الحاج وفرحات عباس وبن باديس والعربي بن مهيدي وعبان رمضان، في اتجاه محطة الوطن المستقل والحر.

مصير الأمير خالد هو خيبة كل سياسي في هذا الوطن مع قدره التاريخي والسياسي، مجتهدا في البحث عن صفوة ونخبة وقاعدة ترفع لواء الحرية والتقدم والنهضة، لكنه لم يكن يمتلك قاعدة جهوية ولا عشائرية ولا قوة عسكرية.