04 نوفمبر 2024
ماء الضعفاء ودماء الأقوياء
لم تُشر التحقيقات إلى أي عملٍ إرهابيٍّ، تسبب في حريق برج غرينفيل في لندن، الذي ربما ساعد على تفاقمه سائق سيارة أجرة يسكن البرج المذكور، كان لديه ما يكفي من الوقت، والبلادة أيضا، لمغادرة المبنى على مهلٍ بعد ترتيب حقائبه، مكتفيا بإبلاغ جارته، لا قسم الشرطة، بأن نارا تشتعل في مطبخه.
لقي الحدث اهتماما عربيا وإسلاميا أكثر بكثير من هجوم إرهابي على جسر لندن سبقه بأيام. لا يتعلق هذا الاهتمام الواسع الذي انشغلت به مواقع التواصل الاجتماعي بعدد الضحايا (بلغوا حتى لحظة كتابة هذه السطور 79 شخصا) بل شاءت المصادفة أن أغلب ساكنيه عرب ومسلمون، أو تحدروا من تلك الأصول.
عزّزت الاحتجاجات الشعبية في بريطانيا نظرية المؤامرة التي يتلقفها شغف عجزنا وقلّة حيلتنا، ليشير تعاطف المصادفة بأصابع الاتهام إلى تقصير متعمد من الحكومة البريطانية، مشوبا بفخار البطولة والشهامة الذي زينته تغريدة إدوين صامويل، المتحدث باسم الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط، شكر فيها الصائمين المسلمين على موقفهم، حين أتاح لهم استيقاظهم لتناول سحورهم المساهمة في عمليات الإنقاذ.
يوفر تعاطف المصادفة هنا فرصة للهجوم، لا تتوفر في مناسبات أخرى، يقف خلف الحدث فيها عمل إرهابي، حيث اللاتعاطف هناك هو الوسيلة لحماية الذات الحضارية، فبالعودة بالزمن أياما قليلة سبقت حريق برج غرينفيل، وقبيل المباراة التي جمعته بنظيره الأسترالي في الثامن من يونيو/ حزيران الجاري، رفض المنتخب السعودي لكرة القدم الوقوف دقيقة صمت حدادا على ضحايا الاعتداءات الإرهابية التي شهدها جسر لندن. وأبلغ مسؤولو المنتخب السعودي الاتحاد الأسترالي لكرة القدم اعتذارهم، بدعوى أن ذلك لا يتناسب والثقافة السعودية.
أثار الرفض استياء جمهور ملعب "أديلايد أوفال" الأسترالي، وجدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل إعلام أجنبية. وتحت ضغط الحرج والفضيحة، قدّم الاتحاد السعودي لكرة القدم اعتذاره، نافيا أن يكون الهدف من الرفض الإساءة أو عدم احترام الضحايا.
لكن، وبالعودة إلى أرشيف الرياضة، نجد أن رفض هذا الطقس بات تقليدا سعوديا تكرّر في أكثر من مناسبة. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، رفض لاعبو نادي الهلال السعودي في العام 2011، قبيل مباراتهم ضد نادي الغرافة القطري، الوقوف دقيقة صمت حدادا على ضحايا التسونامي الذي ضرب اليابان في مارس/ آذار من العام نفسه. وفي 2010، حين كسر نادي النصر السعودي هذه القاعدة في مباراته الودية أمام فريق لاتسيو الإيطالي، حدادا على روح زميل للاعبي الأخير، سارع الأمير جلوي بن سعود تبرير سلوك لاعبيه بالخشية من أن يُتهم السعوديون بالتعصب. لكن ذلك لم يكن كافيا للحيلولة دون ضجةٍ جماهيريةٍ واسعةٍ، حرّضت عليها مؤسسات دينية رسمية، إذ رفض في حينه مفتي المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، سلوك لاعبي "النصر"، بدعوى أن لا أصل شرعياً للوقوف دقيقة صمت، وأن على المسلم أن يحافظ على شخصيةٍ تميزه عن غيره، فيؤثر في الآخرين، لا أن يؤثر الآخرون فيه. أما أعضاء محاكم شرعية فطالبوا لاعبي الفريق بالتوبة تراجعا عن بدعتهم.
تُغفل تلك الفتوى المذكورة أن تأثير المسلم بغيره يفتقد شرط التفوّق الحضاري، أما حفاظ المسلم على شخصيةٍ تميزه عن غيره، فهذا لا يعني نفي الآخر وإقصاءه وعدم إظهار تعاطف وتضامن إنسانيين، يعكسان تسامحا دينيا لا يتعارض مع الحفاظ على هويةٍ أو خصوصية ثقافة، وأن التبادل الحضاري المطلوب لأي نهضةٍ يتنافى وحالة التقوقع على الذات، في عالمٍ يحتاج التعايش فيه إلى قيم مشتركة. ألم يُحسن النبي جوار غير المسلمين وعاد مرضاهم؟ أليس العطف والإحسان من المقاصد الكلية للشريعة؟
وبدل التمسّك بعدم التعاطف المطلق، ألا يكون في الوسع استبدال الوقوف في وسط الملعب، وقراءة الفاتحة على أرواح الضحايا، بالوقوف دقيقة صمتٍ، لا أصل لها في الشريعة؟ هل يجادل بعضهم هنا أن قراءة الفاتحة لا تجوز لغير المسلمين؟ هل يحق لأحد أن يجرد إنسانا من إنسانية كرّمه الله بها، وبما لها من حقوق، لمجرد أنه سلك إلى الله طريقا مغايرا؟
في عالم إسلامي متهالك الأطراف، مأزوم حضاريا، تنتشر ثقافة اللاتعاطف التي تتغذى من قلق هويةٍ مزمن، فعقب هجمات باريس في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، استهجن الجمهور التركي وقوف فريقه دقيقة صمت قبيل مباراته مع منتخب اليونان، حدادا على أرواح ضحايا الهجمات المذكورة، ليضجّ الملعب بصيحات "الله أكبر" وإسقاطاتها المتعددة.
أما نبذ ثقافة التعاطف، فتبلغ قمتها بوصفها تعبيراً عن "الهوان والذلة" في تغريدةٍ للداعية محمد مختار الشنقيطي، أعقبت هجمات باريس، ذلك أن تعزية الضعفاء الأقوياء لا يعبر، برأيه، عن مشاعر إنسانية، بل هو اعتراف بأن "دماء الأقوياء دماء ودماء الضعفاء ماء"، ويتابع منطقه الغريب بأن من لم يبايع أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين ليس "ملزما بالاعتذار عن هجمات باريس"، وأن "الشعوب التي تنتخب قادتها أوْلى بالاعتذار عن جرائمهم". وبذلك، لا تقف حدود عدم التعاطف عند المستوى السياسي الرسمي، بل تمتد إلى جمهوره وناخبيه، فتصبح الديمقراطية اتهاما في الحدود الدنيا، وإدانةً في الحدود القصوى، أما استبدادنا فيصبح صكّ براءة من أفعال مرضانا العقليين، وكفى الله المؤمنين شر العطف وهول التعاطف.
أي حسٍّ إنساني نجده في منطقٍ كهذا لقراءة الأمور، ألا يتجاوز الحس الإنساني، من حيث هو كذلك، الاعتبارات النسبية للغة والحدود والثقافة والدين والعرق، وعصبية القبيلة؟ هل على أولئك الغربيين الذين تضامنوا تعاطفا مع قضايانا، من راشيل كوري إلى أنجلينا جولي ومن بينهما (ومَنْ قبل ومَنْ بعد)، العابرين لتلك الاعتبارات النسبية دعما لقضايانا، الاعتذار عن
جرائم سياسييهم؟ هل قاموا بما قاموا به تكفيرا عن ذنب؟ أيهما أصعب، شعورٌ بالذنب، نلزم به الآخر المدان في مرآتنا مطلقا، أم انكشافٌ أمام ذواتنا، نواريه نكرانا وإسقاطا وتبريرا، بكل ما أوتينا من آلياتٍ دفاعية شعورية وغير شعورية؟ لماذا ينبغي أن نطالب الآخر بكونيةٍ تتجاوز الاعتبارات النسبية على حساب مصالحه، فيخلّصنا من حروبنا ومستبدينا، ويفتح حدوده للاجئينا، وتتصدّر مشكلاتنا وقضايانا صحفه وإعلامه، بقراءةٍ تناسبنا، في حين أننا لسنا على استعدادٍ لأن نقدم نقطة حبر من تعاطف؟ ألسنا ندينه، انطلاقا من إدراكٍ لاشعوري، أن المتفوّق حضاريا هو الأقدر في مستوى نسيجه الاجتماعي أن يُبقي الاعتبارات النسبية ضمن هامشٍ ضيق، مهما أسعفتنا المبرّرات السياسية؟
عدم التعاطف مع الآخر والإصرار على هذا الموقف أقصر الطرق إلى شيطنته وتحميله المسؤولية عن ذاتنا الحضارية والوجودية المتداعية، وتخليص لنا من مشاعر بالذنب مزمنة، لكن ارتدادات عدم التعاطف على الذات أخطر وأمرّ، حين أصبحت ركيزة عدم تعاطفنا أولا مع قضايانا، وقضايا بني جلدتنا عربا ومسلمين، فكان الإخفاق حليفنا في تجاوز اعتباراتنا النسبية، المناطقية والقبلية والمذهبية والطائفية.. حتى استحالت جميع دِمَائنا في بحرٍ لا تعاطفنا ماءُ.
لقي الحدث اهتماما عربيا وإسلاميا أكثر بكثير من هجوم إرهابي على جسر لندن سبقه بأيام. لا يتعلق هذا الاهتمام الواسع الذي انشغلت به مواقع التواصل الاجتماعي بعدد الضحايا (بلغوا حتى لحظة كتابة هذه السطور 79 شخصا) بل شاءت المصادفة أن أغلب ساكنيه عرب ومسلمون، أو تحدروا من تلك الأصول.
عزّزت الاحتجاجات الشعبية في بريطانيا نظرية المؤامرة التي يتلقفها شغف عجزنا وقلّة حيلتنا، ليشير تعاطف المصادفة بأصابع الاتهام إلى تقصير متعمد من الحكومة البريطانية، مشوبا بفخار البطولة والشهامة الذي زينته تغريدة إدوين صامويل، المتحدث باسم الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط، شكر فيها الصائمين المسلمين على موقفهم، حين أتاح لهم استيقاظهم لتناول سحورهم المساهمة في عمليات الإنقاذ.
يوفر تعاطف المصادفة هنا فرصة للهجوم، لا تتوفر في مناسبات أخرى، يقف خلف الحدث فيها عمل إرهابي، حيث اللاتعاطف هناك هو الوسيلة لحماية الذات الحضارية، فبالعودة بالزمن أياما قليلة سبقت حريق برج غرينفيل، وقبيل المباراة التي جمعته بنظيره الأسترالي في الثامن من يونيو/ حزيران الجاري، رفض المنتخب السعودي لكرة القدم الوقوف دقيقة صمت حدادا على ضحايا الاعتداءات الإرهابية التي شهدها جسر لندن. وأبلغ مسؤولو المنتخب السعودي الاتحاد الأسترالي لكرة القدم اعتذارهم، بدعوى أن ذلك لا يتناسب والثقافة السعودية.
أثار الرفض استياء جمهور ملعب "أديلايد أوفال" الأسترالي، وجدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل إعلام أجنبية. وتحت ضغط الحرج والفضيحة، قدّم الاتحاد السعودي لكرة القدم اعتذاره، نافيا أن يكون الهدف من الرفض الإساءة أو عدم احترام الضحايا.
لكن، وبالعودة إلى أرشيف الرياضة، نجد أن رفض هذا الطقس بات تقليدا سعوديا تكرّر في أكثر من مناسبة. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، رفض لاعبو نادي الهلال السعودي في العام 2011، قبيل مباراتهم ضد نادي الغرافة القطري، الوقوف دقيقة صمت حدادا على ضحايا التسونامي الذي ضرب اليابان في مارس/ آذار من العام نفسه. وفي 2010، حين كسر نادي النصر السعودي هذه القاعدة في مباراته الودية أمام فريق لاتسيو الإيطالي، حدادا على روح زميل للاعبي الأخير، سارع الأمير جلوي بن سعود تبرير سلوك لاعبيه بالخشية من أن يُتهم السعوديون بالتعصب. لكن ذلك لم يكن كافيا للحيلولة دون ضجةٍ جماهيريةٍ واسعةٍ، حرّضت عليها مؤسسات دينية رسمية، إذ رفض في حينه مفتي المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء، الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، سلوك لاعبي "النصر"، بدعوى أن لا أصل شرعياً للوقوف دقيقة صمت، وأن على المسلم أن يحافظ على شخصيةٍ تميزه عن غيره، فيؤثر في الآخرين، لا أن يؤثر الآخرون فيه. أما أعضاء محاكم شرعية فطالبوا لاعبي الفريق بالتوبة تراجعا عن بدعتهم.
تُغفل تلك الفتوى المذكورة أن تأثير المسلم بغيره يفتقد شرط التفوّق الحضاري، أما حفاظ المسلم على شخصيةٍ تميزه عن غيره، فهذا لا يعني نفي الآخر وإقصاءه وعدم إظهار تعاطف وتضامن إنسانيين، يعكسان تسامحا دينيا لا يتعارض مع الحفاظ على هويةٍ أو خصوصية ثقافة، وأن التبادل الحضاري المطلوب لأي نهضةٍ يتنافى وحالة التقوقع على الذات، في عالمٍ يحتاج التعايش فيه إلى قيم مشتركة. ألم يُحسن النبي جوار غير المسلمين وعاد مرضاهم؟ أليس العطف والإحسان من المقاصد الكلية للشريعة؟
وبدل التمسّك بعدم التعاطف المطلق، ألا يكون في الوسع استبدال الوقوف في وسط الملعب، وقراءة الفاتحة على أرواح الضحايا، بالوقوف دقيقة صمتٍ، لا أصل لها في الشريعة؟ هل يجادل بعضهم هنا أن قراءة الفاتحة لا تجوز لغير المسلمين؟ هل يحق لأحد أن يجرد إنسانا من إنسانية كرّمه الله بها، وبما لها من حقوق، لمجرد أنه سلك إلى الله طريقا مغايرا؟
في عالم إسلامي متهالك الأطراف، مأزوم حضاريا، تنتشر ثقافة اللاتعاطف التي تتغذى من قلق هويةٍ مزمن، فعقب هجمات باريس في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، استهجن الجمهور التركي وقوف فريقه دقيقة صمت قبيل مباراته مع منتخب اليونان، حدادا على أرواح ضحايا الهجمات المذكورة، ليضجّ الملعب بصيحات "الله أكبر" وإسقاطاتها المتعددة.
أما نبذ ثقافة التعاطف، فتبلغ قمتها بوصفها تعبيراً عن "الهوان والذلة" في تغريدةٍ للداعية محمد مختار الشنقيطي، أعقبت هجمات باريس، ذلك أن تعزية الضعفاء الأقوياء لا يعبر، برأيه، عن مشاعر إنسانية، بل هو اعتراف بأن "دماء الأقوياء دماء ودماء الضعفاء ماء"، ويتابع منطقه الغريب بأن من لم يبايع أبو بكر البغدادي خليفة للمسلمين ليس "ملزما بالاعتذار عن هجمات باريس"، وأن "الشعوب التي تنتخب قادتها أوْلى بالاعتذار عن جرائمهم". وبذلك، لا تقف حدود عدم التعاطف عند المستوى السياسي الرسمي، بل تمتد إلى جمهوره وناخبيه، فتصبح الديمقراطية اتهاما في الحدود الدنيا، وإدانةً في الحدود القصوى، أما استبدادنا فيصبح صكّ براءة من أفعال مرضانا العقليين، وكفى الله المؤمنين شر العطف وهول التعاطف.
أي حسٍّ إنساني نجده في منطقٍ كهذا لقراءة الأمور، ألا يتجاوز الحس الإنساني، من حيث هو كذلك، الاعتبارات النسبية للغة والحدود والثقافة والدين والعرق، وعصبية القبيلة؟ هل على أولئك الغربيين الذين تضامنوا تعاطفا مع قضايانا، من راشيل كوري إلى أنجلينا جولي ومن بينهما (ومَنْ قبل ومَنْ بعد)، العابرين لتلك الاعتبارات النسبية دعما لقضايانا، الاعتذار عن
عدم التعاطف مع الآخر والإصرار على هذا الموقف أقصر الطرق إلى شيطنته وتحميله المسؤولية عن ذاتنا الحضارية والوجودية المتداعية، وتخليص لنا من مشاعر بالذنب مزمنة، لكن ارتدادات عدم التعاطف على الذات أخطر وأمرّ، حين أصبحت ركيزة عدم تعاطفنا أولا مع قضايانا، وقضايا بني جلدتنا عربا ومسلمين، فكان الإخفاق حليفنا في تجاوز اعتباراتنا النسبية، المناطقية والقبلية والمذهبية والطائفية.. حتى استحالت جميع دِمَائنا في بحرٍ لا تعاطفنا ماءُ.