مؤتمرات إعمار غزة سيناريو مكرر
يأمل الفلسطينيون أن تأخذ قرارات مؤتمر القاهرة لإعادة إعمار قطاع غزة طريقها إلى التنفيذ سريعاً، وهو أمل لا تشجع عليه تجارب سابقة شابها عدم إيفاء غالبية المانحين بالوعود المالية التي قطعوها على أنفسهم، ووضع العملية، أميركياً وإسرائيلياً، تحت سيف الشروط السياسية والأمنية المجحفة.
نتائج المؤتمر الذي عقد، أخيراً، برئاسة مصرية نرويجية مشتركة، جاءت ملبية للمطالب الفلسطينية، لجهة حجم الوعود بمساهمة المشاركين في توفير المبالغ المطلوبة لإعادة إعمار ما دمرته الآلة العسكرية الإسرائيلية، والإيفاء بتقديم مساعدات عاجلة، عبر وكالة للأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين "أونروا"، تكفي على المدى القصير لتأمين الحاجات اليومية للأسر المنكوبة.
طالبت السلطة الفلسطينية بأربعة مليارات دولار، فوعِدت بـ 5.4 مليار دولار، جاء نصفها تقريباً من دول عربية، وتعهدت دولة قطر وحدها بمليار دولار من المبلغ. ولكن، لا تتعلق المشكلة، كما تدل عليها التجارب السابقة، بحجم ما يصدر عن المؤتمرات من التزامات وتعهدات مالية، إنما بعدم وفاء دول مشاركة بتعهداتها، وعدم تمكين أخرى من إيصال الدعم، والقيود والشروط السياسية الأميركية والإسرائيلية، التي تقف عائقاً أمام تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، على الرغم من أن العبء الأكبر في تمويل العملية تتحمله بلدان عربية.
وفي سيناريو مكرر، حالت الولايات المتحدة والدول الغربية المشاركة في المؤتمر دون إدانة إسرائيل، وتحميلها مسؤولية عدوانها على قطاع غزة، أو مطالبتها برفع الحصار الجائر الذي تفرضه على القطاع. أكثر من ذلك، حاولت هذه الدول إشراك إسرائيل في المؤتمر، وتولت الولايات المتحدة لاحقاً، ممثلة بوزير خارجيتها، جون كيري، وضع الشروط والتهديدات الإسرائيلية على طاولة المؤتمر، بفجاجة عبَّر عنها كيري بالقول: "ما دام ثمة احتمال لإقدام عناصر من حركة (المقاومة الإسلامية) حماس على إطلاق قذائف صاروخية على مناطق سكنية إسرائيلية في أي لحظة، سيواجه سكان القطاع خطر نشوب معركة جديدة في المستقبل..".
ولم يكتف كيري بتهديد الفلسطينيين بحرب إسرائيلية جديدة، بل وضع تنفيذ عملية الإعمار في قبضة حكومة نتنياهو، في تذكير بما فعلته وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون، في مؤتمر شرم الشيخ، في مارس/آذار 2009، عقب الحرب الإسرائيلية على غزة 2008-2009. حيث قيَّدت كلينتون عملية الإعمار بحزمة شروط سياسية وأمنية على الفلسطينيين، وأكدت أن الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة هي الحفاظ على ما أسمته "أمن دولة إسرائيل واحتياجاتها الأمنية".
من جملة الشروط الأميركية والإسرائيلية، الجديدة- القديمة، بسط حكومة رام الله سيطرتها التامة على قطاع غزة، بما يشمل أن تكون أجهزة الأمن التابعة لرئاسة السلطة الفلسطينية مسؤولة، بشكل كامل، عن القطاع ومعابره الحدودية، وضمان عدم وصول أموالٍ، أو مواد بناء، إلى أيدي "حماس" خصوصاً، والاتفاق على هدنة دائمة بين حكومة نتنياهو والأجنحة العسكرية الفلسطينية في غزة، بالإضافة إلى رفض واشنطن وتل أبيب قيام حكومة وحدة وطنية فلسطينية، وهي شروط تتفق على بعضها دوائر إقليمية مع واشنطن وتل أبيب.
ويلاحظ أن الشروط المذكورة تتعدى عملية إعادة الإعمار إلى فرض مسار محدد، لتسوية القضايا العالقة في المصالحة المتعثرة بين حركتي حماس وفتح، يضعها في سياق ترتيب الأوضاع الداخلية الفلسطينية (بنية مؤسسية وتوجهات وخيارات)، بما ينسجم مع الشروط الإسرائيلية، وليس وفقاً لمصالحة يحدد الفلسطينيون أجندتها وأسسها، بناء على مقتضيات مصلحتهم الوطنية.
وكما هو معروف، تمثل عقدة توحيد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، والعقيدة الأمنية لهذه الأجهزة المعمول بها في الضفة الفلسطينية، ومعالجة ملف الموظفين في قطاع غزة بعد عام 2007، والموقف من المقاومة المسلحة، وأسس ومرجعية العملية التفاوضية بين رئاسة السلطة وإسرائيل، أبرز العقبات التي واجهت الجولات الماراثونية لحوار المصالحة الداخلية الفلسطينية في السنوات الماضية.
وبالتدقيق، تتطابق الشروط التي تضعها إدارة أوباما وحكومة نتنياهو مع شروط إدارة بوش الابن وحكومة إيهود أولمرت عام 2007، بالمقارنة بين نتائج مؤتمر القاهرة في الثاني عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ومؤتمر شرم الشيخ، عام 2009، ومؤتمر الدول المانحة للسلطة الفلسطينية في باريس في ديسمبر/كانون الأول 2007.
ففي مؤتمر شرم الشيخ، تعهدت الدول المشاركة بتقديم 4.480 مليار دولار، وهو رقم فاق بكثير ما حددته السلطة الفلسطينية في ورقتها التي قدمتها للمؤتمر. وفي مؤتمر باريس، طالبت السلطة بدعم ميزانيتها بـ4.6 مليار دولار حتى عام 2010، فحصلت على وعود بتقديم 7.4 مليار دولار، غير أنه لم يتحقق شيء يذكر من عملية الدعم أو إعادة الإعمار الموعودة، بتعطيل أميركي إسرائيلي متعمد، في مسعى إلى إجبار الفلسطينيين على النزول عند الشروط الإسرائيلية المتبناة أميركياً.
وقد ضغطت وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، كوندوليزا رايس، على رئاسة السلطة الفلسطينية في مؤتمر باريس، لمنعها من السير في مصالحة مع حركة حماس، تتعارض مع شروط اللجنة الرباعية الدولية. وتابعت الوزيرة هيلاري كلينتون العمل على هذا التوجه في مؤتمر شرم الشيخ، بتدخلها السافر في الأوضاع الداخلية الفلسطينية، إذ اشترطت على رئاسة السلطة الفلسطينية عدم إقامة حكومة وحدة وطنية مع حماس، إلا في حال استجابت قيادة الأخيرة للمطالب التي أعلنتها (آنذاك) اللجنة الرباعية الدولية، وأهمها: "الالتزام بالاتفاقيات الموقعة بين السلطة وإسرائيل، ووقف المقاومة وحل الأجنحة العسكرية، والاعتراف بإسرائيل".
واستفادت الولايات المتحدة وإسرائيل، في المؤتمرات الثلاثة، من غياب موقف عربي موحد، يتصدى لابتزازهما، ويشكِّل مظلة تحمي الفلسطينيين، وتدعم صمودهم، وتعمل على محاسبة إسرائيل على جرائم حربها، وضمان عدم شن الجيش الإسرائيلي حروباً دموية جديدة على قطاع غزة. ومن غير هذه المظلة، حتى لو نفذت، جدلاً، وعود مؤتمر القاهرة، اكتفاء الدول المانحة بوعود سداد فاتورة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من دون تحميل إسرائيل المسؤولية السياسية والجنائية عن ذلك، ومن دون إخضاعها للمحاسبة الدولية، سيشجع حكومة نتنياهو على معاودة الحرب على قطاع غزة بغطاء أميركي، وهو ما فعلته سابقاً، ولن تتردد فيه لاحقاً.