السقوط السياسي للصهيونيّة
ولدت الصهيونية حركة عنصرية استيطانية استعمارية ساقطة أخلاقياً، ومن شأن مشروع ما يسمى بـ(قانون القومية) أن يتوّج سقوطها سياسياً، بتقديم إسرائيل (دولة قومية للشعب اليهودي)، وشطب مصطلح ديمقراطية من التعريف السابق في (وثيقة الاستقلال) عام 1948.
حملت الحركة الصهيونية في مهدها، أواخر القرن التاسع عشر، سقوطاً أخلاقياً، برفض اندماج اليهود في المجتمعات التي ينتمون إليها، تحت زعم الآباء الروحيين للصهيونية بأن لليهود، على اختلاف أصولهم القومية، "خصائص عرقية مختلفة"، تحدد "الطبيعة الخاصة للعقلية اليهودية"، وبأن الصهيوني المخلص هو "مَن يتمتع بمفهوم عرقي صارم". وهذا ما استند إليه زئيف جابوتنسكي، في نظريته "مبدأ إعادة النظر أو المراجعة"، التي تنطلق من مقولة "الدولة هي التي تخلق الأمة"، و"إن حل المشكلة اليهودية لا تكمن باندماجهم وتكيّفهم في بلدانهم الأصلية".
ومن ثم تعمّق السقوط الأخلاقي للصهيونية بانكشاف دورها أداة من أدوات الاستعمار الأوروبي الحديث، وعدم تردد قادتها في الإشادة بنتائج أعمال الحركات العنصرية الأوروبية التي ناهضت اليهود بأساليب دموية، والإعلان عن شديد إعجابهم بالأنظمة التسلّطية الأوروبية التي ظهرت في ثلاثينيات القرن الماضي، لأنها لعبت دوراً حاسماً في تحقيق مشروع إقامة (دولة استيطانية يهودية) في فلسطين.
في مثال على ذلك، يقول المنظّر الصهيوني، كادمي كوهين، "من نتائج اللاسامية الهتلرية وضع عقبات في قابلية التكييف والاندماج، وبالتالي، تقوية للحركة الصهيونية"، في حين اعتبر جابوتنسكي أن "السامية ردٌّ مقيت، لكنه طبيعي على الشذوذ اليهودي الذي لا يمكن معالجته إلا بقيام كيان يهودي". وهذا ما ذهب إليه، أيضاً، منظّر الحركة الصهيونية في إيطاليا، الفونسو باسيفيسي، حين صرح، أكثر من مرة، إن "الظروف التي وفرتها الفاشية في إيطاليا تعتبر فرصة سانحة لنهضة الجماعة اليهودية الإيطالية"، وذهب آبا هاهيمير إلى أبعد من ذلك، إلى حد دعوة جابوتنسكي لكي ينصّب نفسه (دوتشي) لفلسطين اقتداءً بموسيليني، إيماناً من هاهيمير، على حد تأكيده، أن "الفاشية الحقيقية الصادقة تلتقي، في جوهرها، مع المبادئ الصهيونية".
ولم يتردد منظرو الحركة الصهيونية في الجهر بالطابع الاستيطاني التوسعي للحركة الصهيونية، على الرغم من زعم الحركة الصهيونية أنها (حركة تحرر للشعب اليهودي)، وهو ما عبَّر عنه جابوتنسكي بالقول: "نريد إمبراطورية يهودية، فكما توجد إمبراطورية إيطالية وإمبراطورية فرنسية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، نريد إمبراطورية يهودية"، وهذا لا يكون سوى بالاندماج الكامل مع المشروع الاستعماري الأوروبي، بما في ذلك تعبيراته الأكثر تطرفاً، النازية والفاشية.
والسقوط الأخلاقي للصهيونية لا يكمن فقط بعلاقاتها الوثيقة مع الحركات العنصرية الأوروبية، والتحاقها بمنظومة الاستعمار الأوروبي الحديث، بل، أيضاً، في أن تجسيدها العملي لاحقاً، من خلال العلاقات داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي يقوم على اضطهاد مركّب ضد الفلسطينيين والمكوّن اليهودي الشرقي.
ففي سياق ما اصطلح على تسميتها عمليات (تحضير اليهود الشرقيين)، جرى استلاب لهويتهم وثقافتهم، في خمسينيات القرن الماضي وستيناته، وحسب إيلة شوحاط، وهي أستاذة الدراسات الثقافية في جامعة نيويورك، وتتحدّر من أصول يهودية عراقية، أدى ذلك إلى تحوّل "المنظومة الاجتماعية السياسية في إسرائيل لتكون مبنية على نحو ينتج، بمنهجية، ويعيد إنتاج تأخر اليهود الشرقيين". تحت ذريعة صهر المستوطنين اليهود في "جسم متبلور وديناميكي، يؤسس لمجتمع حديث ضمن المواصفات الغربية".
ولقطع روابط اليهود الشرقيين بثقافتهم العربية ـ الإسلامية، كان لا بد من تعميق الحاجز بينهم وبين العرب. لذلك، تم وضعهم، منذ بدايات الاستيطان الصهيوني، في صراع مصيري مع الفلسطينيين، من خلال توزيع اليهود الشرقيين على القرى الحدودية التي كانت عرضة لهجمات المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن إحداث منافسة دائمة بين اليهود الشرقيين والفلسطينيين في سوق العمل، قبل عام 1948 وبعده.
وعلى الرغم من أن هذا ساهم في رسم الصورة النمطية (لليهود الشرقيين كغلاة متطرفين)، إلا أنه لم يحدَّ من غلوّ السياسة الرسمية الإسرائيلية ضدهم، لإبعادهم إلى هامش المجتمع الإسرائيلي، لأسباب تلخّصها شوحاط بـ"السيادة الأشكنازية على المنظومة المؤسساتية ـ الحزبية قبل مجيء السفاردي الشرقي، والقصور الذاتي للبنية الهرمية المسيطر عليها من النخب الأشكنازية، ونزع الشرعية عن الزعامة الشرقية التقليدية، وصدمة الانتقال إلى إسرائيل، والاضطهاد الطائفي.."، وكل هذا مكّن من استمرار وضعهم في إطار الاستخدام الصهيوني اللاأخلاقي في الصراع مع الفلسطينيين.
لكن اليهود الشرقيين لم يخرجوا، في نهاية المطاف، عن كونهم أداة من أدوات الاضطهاد العنصري والقومي المركب، الذي بنيت عليه الأيديولوجية الصهيونية، فهم يلعبون دوراً مزدوجاً في عملية الاضطهاد، يصل إلى حد الانفصام، باضطهادهم من الأشكناز، وفي آن واحد، تطرفهم العدائي ضد الفلسطينيين.
وتميّزت الحركة الصهيونية عن غيرها من الحركات الاستعمارية الأوروبية، في نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن العشرين، بأنها لم تكن مجرد أداة امتداد للدولة الامبريالية الأم بريطانيا، بل كانت حركة استعمار، في حد ذاتها، موالية للامبريالية العالمية، ودولها المختلفة، من دون تحديد دائم ومستمر. بالإضافة إلى أن مفهوم الاستعمار عند الصهيونية كان أداة لـ(خلق القومية والدولة القومية)، بخليط من الإدعاءات الميثولوجية ـ التوراتية والمقولات الأيديولوجية التحريفية.
وهكذا ولدت إسرائيل من رحم المشروع الاستعماري الصهيوني ـ العنصري، بدعم وإسناد الاستعمار الأوروبي الحديث، الذي اتخذ منها أداةً وظيفية انتقلت إلى اليد الأميركية في خمسينيات القرن الماضي، وما زالت إسرائيل ترفض وضع حد لسياساتها الاستيطانية التوسعية، ووجهها الآخر المتمثل بعنصرية مركبة، حيث يخلط خطابها السياسي والإيديولوجي بين ما يسمى (الحدود التاريخية) الميثولوجية، وما يسمى (الحدود الآمنة والمجال الحيوي)، للاستفادة، قدر الإمكان، من اختلال ميزان القوى الإقليمي والعالمي لبلوغ الحد الأقصى من الحدود التوسعية، إلى جانب محاولة تثبيت سردية تاريخية ملفّقة، سنداً لمزاعمها الأيديولوجية والسياسية.
بدأ السقوط السياسي للصهيونية، التي ولدت ساقطة أخلاقياً، في ذروة اندفاع القوة العسكرية الإسرائيلية، فنتائج الإنجاز العسكري الكبير الذي حققته الآلة العسكرية الإسرائيلية عام 1967 لم يحسم انتزاع مكاسب سياسية، حتى الآن، على الرغم من مرور أكثر من 47 عاماً، بل تحولت بنظر المجتمع الدولي إلى دولة احتلال، تخشى من تآكل شرعيتها.
ومن تجليات المأزق التاريخي للمشروع الصهيوني الاستيطاني إصرار اليمين الإسرائيلي المتطرف على أن مشروع ما يسمى بـ(قانون القومية) هو التطبيق العملي لشرط الاعتراف بمقولة (الطابع اليهودي لدولة إسرائيل)، المطروح على طاولة المفاوضات مع فريق رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية كأساس من أسس "التسوية النهائية"، منذ عام 2003، على الرغم من معارضة وتحذير أوساط سياسية وحزبية إسرائيلية من محذور أن يقود إقرار المشروع إلى انزلاق الصراع العربي والفلسطيني ـ الإسرائيلي من "صراع قومي"، حسب وجهة النظر الإسرائيلية، إلى "صراع ديني"، بدأ يتسرّب فعلياً إلى مكونات الصراع القائم، نتيجة التوترات المتصاعدة في القدس الشرقية، وما قد يترتب على تنامي قوة الجماعات الإسلامية المسلحة، في سورية والعراق، وخطر تمددها إلى بلدان عربية أخرى.
وإذا كان (قانون القومية) يضع الفلسطينيين، المشمولون بالجنسية الإسرائيلية، مرة أخرى، في مواجهة سياسات استلاب الهوية والاضطهاد القومي، كمواطني درجة ثالثة، بتكريس فصل صارم ما بين (يهود وأغيار)، إلا أن (القانون) المذكور يحاول، في جانب خفيّ من أهدافه، التحايل على معضلة فشل الاندماج داخل المجتمع الإسرائيلي، وبلورة (هوية يهودية مشتركة)، فخلال ما يقارب سبعة عقود، فشلت الصهيونية في إيجاد قاسم مشترك بين (اليهودية الأرثوذكسية) و(اليهودية الإصلاحية) حول معايير تحديد مَن هو اليهودي. وهو ما يقر به الكاتب وناشط السلام الإسرائيلي، جدعون ليفي، بالقول: "إسرائيل مجتمع قبلي من المهاجرين، متعدد القوميات، متعدد الطوائف ومتعدد الثقافات، ربما أكثر من أي وقت مضى. فإلى جانب الاندماج، يوجد، أيضاً، غير قليل من سياقات الانعزال والانطواء، والأحاديث عن الوحدة ليست أكثر من جملة كليشيهات مهترئة. خير أم شر هذا، هيا نعترف بذلك..".
ويؤشر هذا الاعتراف، الذي يتقاطع مع مقولات تيار غير بسيط داخل النخب الفكرية والثقافية والمجتمعية والسياسية الإسرائيلية، إلى أن طرح مشروع (قانون القومية) قفزة كبيرة نحو السقوط السياسي للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني.