مآلات فظيعة
يختصر مشهد الطفل السوري، الغارق على ساحل مدينة بودروم التركية، مآلات حكم حزب البعث الذي أمسك السلطة أكثر من نصف قرن، منذ حلم أنصاره بالوحدة والحرية، ثم تمكّن قادته من بلوغ الحكم في سورية والعراق. وهي مآلات فظيعة كما يتضح، أفضت إلى الموت والخراب، عوضاً عن الوحدة والحرية والتقدم.
لم يكن ممكناً لحكم حديدي، مثل حكم حزب البعث، في سورية والعراق، تذرّع بالقومية العربية، لكنه مارس السلطة بالطائفية والقبلية، أن ينتهي نهاية سلمية طبيعية، أو انقلابية عسكرية، كما ظل يجري عادة عند تبديل كراسي السلطة في جمهوريات الخوف العربية. وكأنه كان ضرورياً، لسنوات الحديد والنار الطويلة، أن تُراق شلالات الدماء التي أريقت، وأن تزهق مئات آلاف الأرواح التي أزهقت، حتى يصير الخلاص منها ممكناً.
على أنه من غير الموضوعي نسبة هذا الذي جرى، في سنوات البعث، للبعث نفسه، أو للبعث وحده! تلك تبعات طبيعية في مجتمعات ما قبل مدنية، تتغطى بشكل سياسي مدني هو "الحزب"، على الرغم من أنه لا يتوافق وثقافتها. والمعنى أن ما جرى مع "البعث" كان سيجري، بالضرورة، مع كل "حزب" يمسك السلطة في دنيا العرب: يتذرع بالأيديولوجيا، ثم يحكم بعصبية القبيلة أو الطائفة التي تسيطر على تفكير الناس وولاءاتهم، ويلجأ إلى الحديد والنار، لكي تستتب له طاعة من هم خارج قبيلته أو طائفته، ويفرز "القائد الملهم" الذي يسعى إلى توريث السلطة لأبنائه، كي يستمر حاكماً إلى الأبد، حتى تتغير الظروف، فيكون سعي لإطاحة حكم "الحزب"، فتراق دماء كثيرة، وتزهق أرواح بريئة، ويفرّ الناس من بلدهم إلى الشتات؛ منهم من يبلغ أرض اللجوء، ومنهم من يموت غرقاً.
في الواقع، كل صيغ التنظيم الظاهرية التي توفرت عليها الدولة العربية المعاصرة حديثة، كأجهزة الدولة والسياسة والاقتصاد، غير أن فشل المجتمعات العربية في إنجاز انتقال كامل إلى الثقافة المدنية، عوضاً عن العصبية، حال دون إيجاد الوعي اللازم لانخراط الناس في تلك الصيغ الحديثة، بما فيها الأحزاب السياسية. وليس لنا أن نغض النظر عن أن وسائل العمل و"الإنتاج" لم تُحدث مصلحة لدى الناس في الانتقال من الثقافة العصبية إلى المدنية؛ إذ ظل الفرد قادراً على الجمع بين فرديته في العمل وجماعيته في المطالبة بحقوقه السياسية، لأن روابط العمل الجديدة لم تنتج أدوات قادرة حقاً على إنجاز مطالبه السياسية. ويقال الشيء نفسه عن مطالبه الأخرى، بما فيها الحصول على العمل نفسه، في معظم الأحيان.
كذلك، كانت السلطة السياسية المستندة في استمرارها إلى عصبية الطائفة أو القبيلة، مستفيدة من عرقلة هذا الانتقال الثقافي، والإبقاء على المفاهيم العصبية، لأنها ظلت توظفها للحيلولة دون انفلات المجتمعات من قبضتها، كما استعملتها وسيلة لإنفاذ قاعدة "فرق تسد"، فالسلطة الحاكمة تعزز الانقسامات على أساس الأصل العرقي أو الديني أو الطائفي، حتى تضمن تسابق هذه الجماعات المنقسمة فيما بينها على تقديم الولاء للسلطة.
وإذا كان مفهوماً أن الصيغ المدنية الحديثة في المجتمعات تتمحور حول صعود قيمة الفرد، أي من دون النظر إلى الجماعة العرقية والدينية التي ينتمي لها، أمكن لنا فهم ما جرى في الدول العربية التي حكمت ظاهرياً باسم الحزب، وجوهرياً باسم القبيلة أوالطائفة، فحين ظلت الثقافة العصبية الفاعلة، ظلت المفاهيم القديمة السائدة، حتى وإن حملت مسميات جديدة. هكذا ظل مفهوم "المواطنة" في الدولة متأثراً بفكرة الانتماء العصبي، فلم يكن المواطنون في الدولة سواء، لأن المواطن الذي ينتمي للعصبية الحاكمة، أو يظهر الولاء لها والاعتراف بفضلها، يكون له من الامتيازات ما ليس لمن ينتمي لعصبية أخرى، حتى وإن كانت عصبية الأغلبية، فكيف يمكن أن يزول حكم هذا شكله، يتوفر على الحديد والنار، بغير دماء كثيرة؟
والحال أن الانتقال التاريخي الذي حلم فيه العرب بالنهضة انتهى إلى إنتاج المأساة التي نشهدها اليوم، لأنهم مارسوه من خلال عصبياتهم القديمة نفسها، ببنى مظهرها جديد، ترفع شعارات أيديولوجية كبرى، ظاهرها جمع الناس، وباطنها تفريقهم.
هذه مآلات الفشل الحضاري الكبير الذي يعيشه العرب، منطلقاً من فشلهم الثقافي في مغادرة العصبيات، واختراعهم بدلاً من ذلك كذبة كبرى، اسمها "الجمع بين الأصالة والمعاصرة".