ليلة هروب الرئيس هادي
فقط في اليمن، تصبح الأحداث السياسية دراماتيكية على نحو مفزع، ومن دون توقعات جمهور اليمنيين المتابعين لفصول الرعب الذي يعيشونه يوماً بيوم. وفي أحايين أخرى، تكون هذه الأحداث مثيرة للسخرية؛ ففي ظروف كهذه، خارجة عن سياقات إرادتنا في الفهم، أو قدرتنا على تحليل الوقائع. نحتاج، جميعاً، أن نضحك على المسلسلات السياسية المملة، كنوع من الخفة، توازي خفة القوى السياسية في التعاطي مع تعقيدات الأوضاع السياسية، أو لحماية ذواتنا المتعبة من العطب.
أخذت الأمور منحى سياسياً مرعباً، عندما بسطت جماعة الحوثي سيطرتها على مؤسسات الدولة في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، ثم أخذت منحى دراماتيكياً، عندما قدمت الحكومة استقالتها للرئيس عبد ربه منصور هادي، وقدم الأخير كذلك استقالته لمجلس النواب؛ وسقطت السلطة اليمنية في قبضة المليشيات المسلحة لجماعة الحوثي التي وضعت رئيسي الجمهورية والحكومة ووزيري الدفاع والخارجية وآخرين تحت الإقامة الجبرية. وبعد شهر من هذا التحول الدراماتيكي في الأحداث، لدينا، اليوم، تحول لا يقل دراماتيكية، تمثل في تمكن الرئيس هادي من الـ"هروب" من محاصريه في منزله في العاصمة صنعاء، والتوجه إلى مدينة عدن. وما بين السخرية والفزع، تأخذ الأحداث السياسية في اليمن أبعاداً أخرى، مكملة المفارقة التاريخية في أسوأ تفاصيلها.
لن يعطينا الخوض في تفاصيل هروب الرئيس هادي، أو تهريبه، إلى مدينة عدن، وترجيح سيناريوهات مختلفة صورة حقيقية عن القوة السياسية اليمنية المؤثرة والمسؤولة عن تشكيل المشهد، خصوصاً بعد بسط سيطرة الحوثي على الدولة. وكمعظم الأحداث التاريخية القريبة والبعيدة التي عاشها اليمنيون، تظل مثل هذه الأحداث محل تكهنات الباحثين، أو المعاصرين لها، منذ جريمة اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي في 1978، إلى تفجير جامع النهدين في يونيو/حزيران2011. وعلاوة على الإرباك الذي سببه هروب هادي للقوى السياسية، فإن الملفت للانتباه هو توقيت الهروب المفاجئ للرئيس، الذي يخلق تساؤلاً عمّا إذا كان اختيار يوم 21 فبراير/شباط متعمداً؟ ليعطي بُعداً رمزياً لسلطته الشرعية المهانة، وسعيه الحثيث إلى استعادتها؟ وهل كان الرئيس المستقيل يمتلك بعض أدوات اللعبة السياسية في اليمن، بحيث استطاع التنسيق مع بعض الأطراف لترتيب تفاصيل مغادرته، خصوصاً أن سيطرة جماعة الحوثي شبه كاملة، ليس فقط على قصر الرئاسة ومحاصرة منزلي الرئيس ورئيس الحكومة، وإنما على كل مقاليد السلطة في صنعاء؟
لا شك في أن هروب الرئيس هادي أربك القوى السياسية اليمنية من دون استثناء، وتحديداً الحوثيين، إذ جاء بعد دخولها في مفاوضات مباشرة مع بعض القوى السياسية اليمنية في فندق "موفنبيك" وتداول تسريبات إعلامية من قيادات جماعة الحوثي، تؤكد على وجود شبه اتفاق حول تشكيل مجلس رئاسي إلى جانب الرئيس هادي، في حال موافقته، وبقاء البرلمان اليمني في صيغته الحالية، وتأسيس مجلس انتقالي، يقوم مع مجلس النواب بإصدار التشريعات. وكشفت مستجدات الأحداث الأخيرة عدم سيطرة الحوثيين على أدوات العمل السياسية، وعلى قدرة أطراف أخرى على العمل في الساحة اليمنية، وإرباك الحوثيين الذين سعوا إلى تقديم أنفسهم قوة مسيطرة وقادرة على إدارة البلاد.
في ضوء مغادرة الرئيس هادي موقع إقامته الجبرية، تقرر تعليق المفاوضات بين الأطراف السياسية التي يقودها مبعوث الأمم المتحدة جمال بنعمر، وكالعادة انتهت المفاوضات السياسية في اليمن من حيث بدأت عرجاء، وتضيف تشوهات كثيرة على العملية السياسية برمتها؛ أو لنقل إذا لم تنتهِ هذه المفاوضات ستدخل مساراً مختلفاً، فنقطة القوة التي ارتكز عليها الحوثيون، في الأشهر الماضية، كان حصارهم الرئيس هادي، وهو ما لم يعد كذلك، فبهروب هادي، يدخل الحوثيون، اليوم، في مأزق سياسي جديد، بعد مأزق استقالته، وتضع الحوثيون، من دون أن يخططوا لذلك، في مواجهة مباشرة مع الشرعية الوحيدة التي يتفق عليها معظم اليمنيين، وهي شرعية الرئيس الانتقالي، حتى لو اختلف كثيرون حول طبيعة أدائه السياسي طوال الفترة الانتقالية. ومن جهة ثانية، ستواجه جماعة الحوثي الشارع اليمني المنتفض في عدد من المحافظات ضد سلطة المليشيات. كما أن هروب الرئيس هادي إلى الجنوب سيمنحه الغطاء الشعبي الجنوبي- والشمالي على السواء، وسيوحد قوى سياسية يمنية كثيرة على قاعدة "الحفاظ" على شرعية رئيس جنوبي، كون ذلك، على الأقل، يوقف انزلاق اليمن الموحد إلى التشطير.
مثّل ظهور الرئيس هادي لليمنيين انتصاراً أخيراً لرمزية الدولة اليمنية المستباحة الممثلة بشخصه، كمشهد ربما من زمن آخر؛ وما أن أعلن بيانه رفض الانقلاب، وكل الإجراءات الأحادية التي قامت بها جماعة الحوثيين منذ إسقاطها المؤسسات في 21 سبتمبر، حتى تفاءل يمنيون كثيرون بهذه الخطوة السياسية التي سحبت البساط من تحت أقدام جماعة الحوثي، وأعادتهم إلى المربع الأول، كقوة سياسية انقلبت على الشرعية، مستخدمة قوة السلاح والعنف، كما عرّت الأطراف السياسية الأخرى التي كانت تفاوض الحوثيين على تسويات دون وطنية، تحقق مصالحها، وليس مصالح اليمنيين.
وبقدر ما أراح بيان الرئيس يمنيين كثيرين خائفين من استمرار تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية، إلا أن ثمة مخاوف من فشل القوى السياسية اليمنية على استثمار هذه الفرصة، والبناء عليها، لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، والحوار على مستقبل اليمن، بعيداً عن هيمنة المليشيات والجماعات المسلحة، ومخاوف أخرى من رد فعل الجماعة بعد هذه التطورات.
ربما لن يقف الأمر عند حد نستطيع التكهن به. لكن، ما هو جلي أن اليمنيين مقبلون على مشاهد سياسية أكثر دراماتيكية وهزلية، وعلى سقوط نخب وقوى سياسية كثيرة، وعدم قدرتها، في ظروف سابقة، على كف أذى المليشيات المسلحة المحتربة على مستقبل البلاد وثرواته، لكنهم سوف يتساءلون، أيضاً: هل لديهم، الآن، رئيس يستطيع أن يحكم؟