ليبيا بين التصعيد السياسي والتدخل الدولي

26 يوليو 2019

احتجاج في طرابلس ضد خليفة حفتر (26/4/2019/فرانس برس)

+ الخط -
على الرغم من سيطرة حكومة الوفاق في ليبيا على مدينة غريان، إلا أن المعارك حول العاصمة طرابلس ظلت متأرجحة، من دون حل حاسم، بإمكانية بسط هذه الحكومة سيطرتها على كامل المنطقة الغربية، حيث شاعت تقديرات أولية بأن خروج قوات اللواء المتمرد خليفة حفتر سوف يؤدي إلى تغيرات حاسمة في مسار هذه المعارك، غير أن التداعايات اللاحقة كشفت عن ظهور استراتيجيات جديدة، من الدول الداعمة لاستمرار الحرب والتوجه نحو تكوين بدائل لحكومة الوفاق، بشكلٍ يثير التساؤل عن طبيعة التدخل الدولي في المرحلة المقبلة.
ومع تداعيات المعارك، وبدء اجتماعات نواب في طرابلس، تلقى مجلس النواب دعوة لزيارة القاهرة، للتشاور بشأن توحيد المجلس، ومناقشة اختيار رئيس للوزراء، غير أن تلك المشاورات لم تصل إلى النتيجة، سوى التمسك بوحدة الدولة وقبول انعقاد المجلس في أي مدينة ليبية للتوافق على ملامح المرحلة المقبلة، وفق بيان 15 يوليو. وهنا، تمكن قراءة اجتماع القاهرة من جانبينن، حيث يبدو محاولة لتطوير الترتيبات السياسية المساندة للحكومة المؤقتة، وحشد النواب وراء الخيارات السياسية المعبرة عن مسار خليفة حفتر، أو يبدو تتويجا استباقيا لمنع تحول اجتماع جزء من نوابه في طرابلس إلى مؤسسة مناظرة. ولهذا، تم التأكيد على أن المجتمعين في طبرق يمثلون السلطة الدستورية، ليس فقط حسب الإعلان الدستوري، ولكن وفق اعتراف الدول بالانتخابات التشريعية.
وعلى مستوى الأبعاد العسكرية، فإنه على الرغم من تحسّن الأداء العسكري لحكومة الوفاق، تشير تطورات المعارك إلى صعوبة حدوث تغيرات جوهرية في مسارات الصراع المسلح، فمن جهة، ما زالت العمليات تدور حول العاصمة، وتتخذ أنماط حرب العصابات، وتتصاعد وتنحسر، لتتخذ شكل حرب الاستنزاف، وتقويض بنية الخدمات المدنية. ومن جهة أخرى، تتزايد التعبئة والحشد على جانبي الصراع، فكما يعمل مناصرو حكومة الوفاق على ترتيب تحالفاتهم، والقيام بحملات عسكرية وقائية في مناطق بعيدة نسبياً عن ضواحي طرابلس، يتجه حفتر وحلفاؤه إلى الحديث عن الحسم المسلح، مقترنا بالدعوة إلى الحل السياسي. وفي ظل فقر المقترحات السياسية، تعطي صورة الصراع وخريطته انطباعاً متراكماً بتراجع فرصة الحل السلمي.
تنافر "الوفاق" و"الحكومة المؤقتة"
ويرجع انحسار فرصة الحل السلمي إلى انخفاض الدور الدبلوماسي لحكومة الوفاق، وتركيز
 "الحكومة المؤقتة"، شرق ليبيا، على القوة المسلحة حلا أساسيا للسيطرة على ليبيا، فمنذ اندلاع المعارك، تبنّت حكومة الوفاق اتجاهين للخروج من الصراع المسلح. تمثل الأول في السعي إلى الحصول على تأييد دولي لمواقفها على أساس التمييز بين حق الدفاع الشرعي والعدوان على المدنيين ومؤسسات الدولة، وقد حاولت حكومة الوفاق إظهار الهجوم عملا خارج القانون. وبهذا المعنى، عملت على نقل عبء الأزمة إلى مجلس الأمن، حيث تحظى السلطة الانتقالية بالحماية القانونية للأمم المتحدة، فيما تظل الحكومة المؤقتة خارج الإطار القانوني، وهذا ما شكل الأساس لتصرفات المجلس الرئاسي في اعتبار أنصار حفتر منظماتٍ متمرّدة، ارتكبت انتهاكاتٍ وألحقت أضراراً جسيمة بالمدنيين، تقع تحت طائلة القانون العسكري الوطني وميثاق الأمم المتحدة، ولذلك تقدمت بطلب لمحاكمتهم في الجنائية الدولية. ويرتبط الاتجاه الثاني بمقترحات الحوار البديلة عن "المؤتمر الجامع". ولذلك، صارت حكومة الوفاق (ومؤيدوها) تبني خياراتها على بدء خطة حوار أخرى بدون خليفة حفتر، ولكنها لم تجد بيئة مواتية، بعد التراخي الدولي تجاه ليبيا، بسبب انشغال الدول الكبرى بقضايا أخرى، وكان طرح رئيس حكومة الوفاق، فايز السراج، مبادرة 16 يونيو/ حزيران 2019، محاولة لاستعادة المسار السياسي ووقف القتال، لكن ظهورها في سياق غموض المواقف المحلية والدولية ساهم في تغييبها سريعاً.
وبالنظر إلى مواقف الأطراف الليبية تجاه الأزمة السياسية، تبدو وجهات نظر مختلفة. يتضح ذلك في أنه بينما يعتبر السراج أن إنجاز الحوار يعد من أولوية المهام السياسية، يقرّر خليفة حفتر أن القضاء على المجموعات المسلحة شرط ضروري لفتح الطريق أمام الحوار، وهذا الأخير، يتلاقى مع مواقف داعميه الدوليين.
كما يظهر تنافر آخر، من وجهة المنظور القانوني للصراع، فوفقاً لاتفاق الصخيرات، استقرت حكومة الوفاق على تفسير تحركات حفتر باعتبارها عملية انقلابية، تسوق الحكومة المؤقتة/ مجلس النواب حججاً "قانونية"، تدعم إنكار مشروعية فايز السراج / حكومة الوفاق، محاولة لتوفير الشكل القانوني للهجوم على طرابلس، استناداً لولاية مجلس النواب على الجيش الليبي، وهي مسألة لا تعكس واقع التصرفات والعلاقة بين "قيادة الجيش" ومجلس النواب، حيث يهيمن حفتر على القرار السياسي وموارد شرق ليبيا.
وباختلافات محدودة في الحكومة المؤقتة، يعتبر رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، حكومة 
الوفاق غير شرعية، ودعا إلى إطاحتها، فيما يراها حفتر حكومة قائمة، ولكنها غير فعالة ومغتصبة للسلطة، ومن ثم، حدّد مهمة العملية العسكرية في فتح الطريق إلى الحل السياسي، حيث تكون مهمتها في استهداف أوضاع مستعصية، مكافحة الإرهاب وتفكيك المليشيات وجماعات الإسلام السياسي. وتتقاطع مواقف الحكومة المؤقتة مع المواقف الدولية، فيما يتعلق باتهام "الوفاق" بالتعاون مع الإرهابيين، بطريقة تهز وضعها السياسي وإطاحة مصداقيتها. وتقتضي هذه السياسة حل كل المليشيات ونزع سلاحها، وحل كل الأجسام المنبثقة عن اتفاق الصخيرات، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تكون مهمتها إعادة الإعمار وإجراء الانتخابات، والسيطرة على الموارد النفطية والمالية.
ومع تعذر محاولات السيطرة على طرابلس، رأى حفتر، في 20 يونيو/ حزيران 2019، إمكانية انعقاد حكومة الوحدة الوطنية في أي مدينة ليبية، توجها إلى تطوير النزاع مع حكومة الوفاق ونقله إلى ساحات أخرى، والضغط عليها بحيث تفقد مبرّر وجودها. وهنا، تشير اجتماعات مجلس النواب بالقاهرة وفتح النقاش حول تشكيل الحكومة إلى ممارسة ضغوط متعدّدة على حكومة الوفاق، في مقدمتها تراخي دعم الأمم المتحدة، معارك الاستنزاف وتكوين حكومة بديلة، وهي مسارات تقطع الطريق على اتفاق الصخيرات بوصفه إطارا للحل السياسي، بجانب قطع المياه وتخريب البنية الأساسية.
تحيز الأدوار الدولية
منذ اندلاع الصراع في الجنوب، فبراير/ شباط 2019، شهد دور الأمم المتحدة تراجعاً واضحاً، وكما عجز مجلس الأمن عن طرح قرار ملزم لوقف القتال، ظلت البعثة الأممية متأرجحة بين أطراف الصراع من دون الحديث عن التهدئة، وهو ما يكشف عن تغير في المواقف والكتل الدولية، ظهرت ملامحه في انقسام مجلس الأمن وعدم قدرته على إصدار أي قرار، منذ بدايات الهجوم على طرابلس، وعلى الرغم من خطورة الهجوم على مركز احتجاز للهجرة غير الشرعية، فقد اكتفى بإصدار بيان إدانة.
وعلى الرغم من استناد حكومة الوفاق إلى الأمم المتحدة أساسا لمشروعيتها، اتجه أعضاء البعثة الأممية إلى التواصل مع الحكومة المؤقتة، في 6 يوليو/ تموز الحالي، ولعل تكرار هذا السلوك وطابعه الرسمي، في وقت اندلاع المعارك، يتعارض مع الاعتراف بحكومة الوفاق، حيث يرتبط مباشرة بإضعاف شرعيتها، ما يمثل واحدا من تناقضات المنظمة الدولية. وفي هذا السياق، تعد زيارة استيفناي ويليامز، نائب رئيس البعثة الأممية، الحكومة المؤقتة متوافقة مع السياسة الأميركية الساعية إلى إخراج الملف الليبي إلى المساومة خارج إطار مجلس الأمن، وانتظار نتائج المعارك الدائرة على مستوى ليبيا، ما يوفر فرصة مناسبة لتجميد القرارات الدولية، سواء المتعلقة بدعم الحكومة المعترف بها دولياً أو تلك التي تفرض حظراً على السلاح.
تعد هذه المواقف امتداداً لخطأ الأمم المتحدة الكارثي والمزدوج، فبينما تغاضت عن إلغاء 
المحكمة العليا قانون انتخابات النواب، فإنها تعمّدت إطلاق اتفاق الصخيرات بعيداً عن السلطات الدستورية، ما يشكل جذور إلتباس الموقف الدولي بشأن الحل السياسي، فكما ساهم هذ التوجه في إضعاف السلطات، لم ينجح في تكوين مؤسسات بديلة، وصارت الفوضى تشكل ملامح المواقف الدولية.
بشكل عام، تتلاقى مواقف الأمم المتحدة والبيانات الدولية المشتركة على أن ليبيا تمر في حالة حرب أهلية، وهذا ما يتضح في تجنب الاعتداد بالوضع القانوني لأي من الحكومتين، ووصف ما يحدث في طرابلس بأعمال عدائية، ووفق مضمون البيان المشترك، 16 يوليو/ تموز 2019، تبدو ميول إلى اتهام حكومة الوفاق بالتعاون مع المصنفين من لجنة العقوبات إرهابيين، وتحميلهم مسؤولية "تفاقم حالة عدم الاستقرار"، وهي مواقف تتقارب مع البيانات السابقة، من وجهة تبرير استمرار الحرب.
تفكك دول الجوار
وثمّة جدل حول العلاقة بين انخفاض تأثير "دول الجوار" فيما يتزايد التماسك النسبي لتحالف "مصر وفرنسا والإمارات العربية" والسعودية، وهذا ما يرجع أساسا إلى أن افتقار "دول الجوار إلى آلية مشتركة لاحتواء المخاطر المتماثلة، وفي مقدمتها اختلاف مصالح الدول الثلاث، ساهم في انحسار المواقف المشتركة، وغموض أهداف الاجتماعات، ففي ظل احتدام المعارك حول طرابلس، ساهم عدم انعقاد اجتماع دول الجوار، مصر وتونس والجزائر، في تأرجح الموقف الإقليمي بين دعم وقف الحرب وتسهيل وصول حفتر إلى طرابلس، ليعكس اختلافات أساسية بين السياسة الخارجية لكل من البلدان الثلاثة. غير أن اجتماع "جوار ليبيبا" في تونس، 12 يونيو/ حزيران، كشف عن استمرار الدعوة إلى وقف المعارك وإلى الحل السلمي، فقد عكس البيان الختامي تقارباً بين الدول الثلاث بشأن إعادة بعث المسار السياسي، لكنه، في الإطار العام، يتماثل مع الاجتماعات الستة السابقة. وكما يؤكد على الحل السلمي للصراع في ليبيا، ظل بدون آلية واضحة لمتابعة توصياته، إلى درجة أنه لم يتوافق على عقد اجتماع لجامعة الدول العربية. وبغض النظر عن محتوى البيانات الختامية، فإن غياب آلية للمتابعة والعمل الجماعي أدى إلى انتقال النفوذ السياسي للتحالفات الأخرى، بشكل يدفع كل دولة إما إلى التقارب مع تحالفات قائمة أو إلى اتخاذ مواقف فردية لحماية مصالحها الأمنية.
لم تكن النتائج الحالية وليدة اللحظة الراهنة، فقد تشكلت ملامحها مع بداية الانتفاضة ضد معمر القذافي، فلم يكن تضامن المجتمع الدولي، بشأن دعم الثوار، استجابة لتطور اجتماعي أو اقتصادي يدعم الطلب على الديمقراطية، بقدر ما ظهر محاولة لإحداث فجوة في سلسلة الانتقال السياسي المحتملة في كل من تونس ومصر، وكان ذلك واضحاً في التمركز حول إسقاط القذافي من دون توفر خريطة للنظام البديل، فقد دخلت الأمم المتحدة على الملف الليبي من دون تصور للنظام السياسي المرغوب، فمنذ البداية، لم تطرح تصورا لما بعد إسقاط القذافي، وكان تعاملها مع التداعيات السياسية مغرياً للتنافس الدولي في السنوات اللاحقة.
وبشكل عام، يمكن القول إن الصراع حول طرابلس يقترب من التدخل الدولي المباشر، حيث هناك قلق من أن تراخي مجلس الأمن يؤدي إلى اهتزاز شرعية حكومة الوفاق، والسعي إلى دعم صيغ حكومية بديلة، غير أن تطور هذا المسار يتوقف على قدرة المجموعات الموالية لخليفة حفتر على الاستمرار في الحرب. وبالتالي، سوف يساعد تعثر تحقيق إنجاز ملموس على زيادة تدخل العوامل الخارجية، بصورةٍ تحمل في ثناياها تدويل الصراع حول ليبيا.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .